قصة قصيرة

الحَياةُ مجرّدُ أفعُوانيّة

بقلم: أسيل


حجم الخط-+=

ماهو أكبر خطأ اقترفته في حياتك؟ بالنسبة إلى عجوز مثلي، فأكبر خطأ ارتكبته كان حين أضعت دمية الدب خاصتي في مدينة الملاهي، ذهبت إلى هناك برفقة جميع زملائي في الصف ضمن رحلة مدرسية، كنت طفلا خجولا ومازلت كذلك، وحيدا وما زلت، لذا لم يكن الأمر ممتعا كما كان عليه أن يبدو لطفل في التاسعة، أحضرت معي دمية الدب المفضلة عندي، أو على الأرجح صديقي المفضل، وعلى الرغم من إدراكي وقتها أن زملائي سيسخرون مني، لكنني لم آبه بذلك، فتلك الدمية صنعت بأيدٍ خاصة، بأنامل خاصة، أنامل أمي، عيناه كانت إحدى أزرار ثوبها الأصفر، وفروه خاطته من معطفها البني الدافئ، وليس فقط المعطف، بل كانت أمي كلها دافئة، كأدفئ ما يكون، لكن، أظن أن الموسيقى و حلوى القطن قد أنسياني ذلك، وأظن، أن ألوان الأفعوانية شدتني وأخذت بي إلى عالم آخر، عالم لا أملك فيه دميةً صُنعت من ثوب أمي.. عالم لم أفقد فيه أمي..

 حين اعتلينا الأفعوانية، لم يجلس بجواري أحد، فقمت بإسناد دميتي بجواري على المقعد، وما كادت اللعبة أن تبدأ وإذ بطفل يركض نحوي، جلس بجواري وراح يضحك بصخب وقال:

  • أردت أن أبتعد عن صديقيّ لأنهما جبناء، فهما يصرخان في كل مرة نهبط فيها ونصعد! وهذا يؤلم أذناي حقا!

رددت بصوت منخفض:

  • أنا لست جبانا..

 ضحك وقال:

  • سنرى

حين بدأت اللعبة تتسارع حاولت أن أكبت انفعلاتي، و أخفي خوفي، وراح هو يحدق إليّ تارة وتارة، حتى قال:

  • أنت حقا شجاع!

شعرت وقتها بقلبي قد قفز، لا بسبب الأفعوانية، ولكنها كلماته، حاولت إخفاء ابتسامتي المضطربة، إلا أنها تلاشت حين حدق إلى دمية الدب بجواري وقال باستغراب:

  • ماهذا؟
  • لا أدري..
  • ظننتها ملكك..
  • لا!

تحركت يداي بآلية، وأمسكت بدمية الدب وأسقطتها، ضحك الفتى بجواري بخفة وقال:

  • يبدو أنه لا يجيد الطيران!

أشحت بنظري، لم ألتفت ولم أنظر للأسفل، وحين هبطت من اللعبة أيضا لم ألتفت، وقبيل خروجي من مدينة الملاهي برفقة صديقي الجديد مجددًا لم التفت، وحين غادرت بنا الحافلة لم ألتفت مطلقا، على الرغم من أن قلبي كان يتوق لذلك، يتوق لنظرةٍ أخيرة..

 

لكن الآن، و بعد خمسين سنة، ها أنا ذا، ألتفت كلّ حينٍ وحين، أحدق إلى اللعب التي يمسك بها الأطفال، إلى زوايا الشوارع والأرصفة، في عيون العجائز مثلي، أبحث عن بقايا دميتي، عن بقايا كل شيء خسرته، هناك أو هناك، ومازلت أسأل نفسي الآن، إن كنت التفت حينها أكنت سأرى دميتي حيث سقطت؟ تنتظرني لأهرع وأحملها؟ أتُراها ما زالت تنتظر؟ بل.. أكُنت أشتاق إلى دميتي؟ أم أشتاق إلى أمي؟ إلى ابني ومنزلي؟ إليّ أنا؟ إلى ذلك الطفل الذي كنته؟ الذي ظن يوما أنه شجاع.. وأن بوسعه أن يتجاوز فقده لأمه.. وأنه قادر على أن يعتلي الأفعوانية دون أن يخاف..؟

 

وبعد كل هذه السنين التي انقضت، لم تنقطع زياراتي الدائمة لمدينة الملاهي تلك، إذ شهدت جميع تغيراتها وتجديد مساحاتها، ورغم أنهم استحدثوا الكثير من الألعاب هناك، إلا أن الأفعوانية ظلت كما هي، بذات الألوان، بذات الأضواء، واليوم أنا أيضا هنا، وفور دخولي اتجهت إلى حيث الأفعوانية، اقتربت منها وحين لاحظني الموظف قال لي:

  • كالعادة؟
  • أجل، هاك، تذاكر لثلاث جولات

 توجهت للمقدمة واعتليت أقرب مقعد، بدأت الأفعوانية بالتحرك، إلا أنني كنت ساكنًا، كشيء نسي كيف يتحرك، كشيء بلا هدف، بلا لون، بلا عائلة، بلا منزل، بلا دمية محشوة بالخيبات، بلا شيء، بلا أحد، فقط.. أنا.. 

وقبل أن تبدأ اللعبة جولتها الثالثة، صعد طفل صغير بجواري، كان ممسكا بيمينه دمية دب ترتدي قبعة، فقلت له: 

  • يبدو أنك تحب دميتك كثيرا
  • أجل، كثيرا!
  • عليك أن لا تتخل عن أشياءك الثمينة أبدا..
  • لكن ماذا إن أجبرت على تركها؟ أمي قالت لي أن علي التوقف عن اصطحاب دميتي إذا أصبحت في العاشرة..
  • لماذا؟ ما الخطأ في دمية الدب هذه؟ أستمنعك من أن تكبر؟
  • أجل، ربما، إذا كنت أريد أن أكبر فعلي أن أتوقف عن التعلق بدميتي
  • أتظن أن النضج بهذه الروعة؟
  • لا، هو مخيف أعرف هذا، كما أن هذه الأفعوانية مخيفة، والتخلي عن دميتي مخيف.. مخيف ومؤلمٌ..
  • لماذا تقدم على أمور تخافها؟

هتف الطفل فجأةً وأمسك بيد العجوز:

  • جدي، تمسك جيدا نوشك على الهبوط! لنصرخ معا! واحد.. إثنان.. ثلاثة!

كان الجميع حوله يصرخون بحماسة، رد عليه العجوز بعصبية:

  • لماذا أصرخ؟ لست خائفا! وتمسك بدميتك جيدا حتى لاتسقط!
  • جدي، لتكون شجاعًا عليك أن تخاف..

تهبط الأفعوانية بسرعة وصرخات حماسة تنطلق من جميع ركاب الأفعوانية، كانت أحدها صرخةٌ لعجوز يبدو وكأنه يجرب الأفعوانية لأوّل مرة، وكأنه يخاف لأوّل مرة.. ويشعر لأوّل مرة..

 

انتهى..

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى