الحب.. حديث القلب للقلب، ومناجاة الروح للروح، ألّا يجد القلب متسعًا لشعورٍ غيره، في الحب، تسكن الأنفس، وبه تهدأ الروح، وتسمو المشاعر كلها، بالحب خلقنا وبه نعيش، وله.. تجود النفس وتُبذل الأرواح تضحيةً وفداءَ، كتب الشعراء فيه فقرأنا أنقى مشاعرهم، وتوَجّد المحبون فلامسوا أعمق آلامنا الخفية، في الحب رويت أجمل القصص، وتُرجمت لغة الأعاجم المحبة، ولأجل الحب فقط قرأنا رائعة من تراجم المنفلوطي أسماها ( ماجدولين) أو (تحت ظلال الزيزفون).
لا يخفى على أي قارئٍ للأدب قامةٌ عملاقة كمصطفي المنفلوطي، الأديب الشاعر الذي ملأ الدنيا وشغل الأدب برائعتيه ( العبرات والنظرات)، كان قد وُلِد في صعيد مصر وتلقى علومه حين كبر في الأزهر، نشأ على حب الأدب وقراءته فتشرّب روائع المتنبي وجماليات ابن المقفع وأدب الجاحظ وغيرهم الكثير من عمالقة الأدب العربي، حتى امتلأت نفسه وفاض أدبه بأسلوبٍ رشيق يميزه عن غيره من الكتاب.
لا أدري ما الذي دفع المنفلوطي حقيقةً إلى أخذ ( تحت ظلال الزيزفون) أو كما أطلق عليها ( ماجدولين) ليترجمها إلى العربية ، انتقاها من الأدب الرومانسي لكاتبها الفرنسي ( ألفونس كار) وقدمها إلينا معيدا صياغتها بأسلوبه المتميز، وضع بصمته عليها وأجاد في ذلك.
تحكي ماجدولين حبًا وُئِد في مهده لأجل المال والجاه والغنى، فالبعض – كما يزعمون- يؤكدون عدم اجتماع الفقر والحب، وأن المرء حتى يعيش حبه عليه أن يكون ذا جاهٍ ومال! ؛ لأجل هذا ودّع ستيفن- بطل القصة – ماجدولين بحثًا عن المال بعد أن طرده والدها خوفًا من فقره، ولم تكُ ماجدولين بريئة في القصة حيث تخلّت في لحظة ضعفٍ عن حبها ووعودها لتتزوج صاحب المال مدعيةً حبه وهو كذلك.
يلفتك حين تمعن في قراءتها عمق الوصف حتى كأنك تجلس تحت ظلال الأشجار، أو تقف مع جماهير الناس على ضفاف الأنهار، تشعر أنك عشت معهم وهم يجرّون عرباتهم متنقلين بين المدن، تحضر حفلاتهم الصاخبة بإحساسك حين يتحدث عنها، أما مشاعرهم فيجعلك تعيشها وكأنها لك وحدك.. إنه يعمد إلى الجرح فيحكيه ببكاء.. وإلى الحب فيكتبه بسخاء.. وإلى الفراق فيمليه بعناء.. صاغها إلى العربية فأبدع.
كيف يسمو الحب بالقلب؟
” فلا السماء صافية كعهدي بها، ولا الجو باسم طلق كما أعرفه ، ولا الماء صاف عذب ، ولا الهواء رقراق عليل ، ولا الروض متفتح عن أزهاره ، ولا الزهر متنفس عن عبيره كأنما كنت سر الجمال الكامن في الأشياء ، فلما خلت منك أقفرت واقشعرت ونبت عنها العيون والأنظار .”
لما ترقرق قلبه حبا لها، تراءى له حزن الأشجار والأزهار والطيور وحتى الماء، لقد تجلّى في أبهى صوره، لما أيقن أن الأرض أقفرت دون وجود ماجدولين فيها وزهد الناس النظر إليها، فاضت روحه بهذا الحب فشعر نفسه غريبًا عن داره، وأحس أنها – ماجدولين- وطنه وملجؤه وغبطها لأنها تعيش ذكرياتهم وترى موطن أول همساتهم وهذا ديدن المحبين والشعراء منذ الجاهلية، ألم يتغنوا بكل منازل نزل بها محبيهم؟
كبرياء وأنفة
” فلما وقف بين يديه عقل الحياء لسانه ، فلم يستطع أن يقول له شيئاً وكذلك شأن أصحاب النفوس الشعرية يملأ الشعر نفوسهم عزة وخيلاء ، فتملأ العزة وجوههم حياء وخجلا ، فلا يذلون ولا يضرعون ، ولا يجرؤون على شيء مما يجرؤ عليه الناس جميعاً كأن تحليقهم الدائم في سماء الخيال وطيرانهم في تلك الأجواء العالية غادين رائحين ، قد مثل لنفوسهم أنهم يعيشون في ملأ أرفع من الملأ الذي يعيش فيه الناس ، فإن عرضت لهم حاجة من الحاجات أبوا أن يسألوها أحداً من سكان الأرض”
بعد أن طُرد بطل قصتنا قرر أن يجني المال حتى تكون ماجدولين له، وذهب للقاء أستاذه القديم، لكن كرامته في أول لقاء منعته من الإفصاح عن مكنونات نفسه وعظيم حاجته، هكذا البعض إن طغى بهم الحب الحقيقي تكون الكرامة والأنفة وعزة النفس صاحبة له، لما رأى من نفسه عدم المقدرة على طلب ما أراده، زعم أنه يريد تلقي دروسا من أستاذه، حتى استطاع العمل بعدها.
الصديق الخائن
“جلس إدوار إلى صديقه في الليلة التي عزم على السفر في غدها وكان جرحه قد أشرف على البرء، وقال له : سجلت لنفسك بدمك يا استيفن في صفحة قلبي نعمة لا أنساها لك مدى الدهر كما لا أنسى لك أنك وأنت في أشد حالات بؤسك وضيقك قد آويتني وواسيتني أياماً طوالا ، واحتملت لي ما لا يحتمله أخ لأخيه ولا حميم لحميمه ، فلو أنني جمعت لك في يوم واحد جميع ما كافأ به الناس بعضهم بعضاً على الخير والمعروف مذ خلقت الدنيا حتى اليوم لما جازيتك بعض الجزاء على الخير الذي صنعت. “
يظهر لنا بطل القصة محبا مخلصا، وصديقا وفيا، لقد حمى صاحبه بنفسه ودمه وهذا ما جعل إدوار يعد صديقه الصادق بحفظ العهد، وكان يعلم عمق حبه ومنتهى أحلامه، إلا أنه خان صداقتهما وأقدم على فعلٍ شنيع لا أعرف كيف غفره له صاحبه بعد ذلك، أغفل الكاتب قصة إدوار وكيف وقع في حبالها، ولم يعتذر أبدا عن فعلته، لكنني أجزم أن أفعاله السابقة التي أبداها الكاتب أظهرت لنا الصورة الدنيئة لنفس إدوار حين مكث مع صاحبه أياما وأساء إليه وقتها، فقد كانت هذه مقدمةً خفية لشخصيته.
الفاجعة
“ثم انعطف فما وقع نظره على المقعد حتى جمد واصفر ، ووقفت دورة الدم في عروقه : وتعلقت بين لحييه فما تصعد ولا تهبط ! فقد رأى ماجدولين جالسة بجانب فتى غريب تبسم له ويبسم لها وقد أخذ يدها بين يديه وألقى رأسه على صدرها ، وحنا عليها حنو المحب على حبيبه ؛ فظل يقول في نفسه : ما هذا الذي أرى؟ “
لما جمع ماله، وبنى منزله الذي حلما به سويًا وقوي عوده، هرع مسرعًا إليها ليراها على ذات المقعد الذي شهد لقاءهما دومًا… لكنها بصحبة آخر لمّا تقدم عرف أنه صديقه الوفي، لم يجرؤ أيا منهما على التبرير، بل ولّى هاربا إلى المنزل دون أن ينبس ببنت شفة!
هكذا بقي استيفن يضرب أخماسًا بأسداس، يود لو التفاتةً صغيرة ونظرةً خاطفة تنبئه عن مكنونات نفسها.. لكن ماجدولين لم تفعل!
النهاية
بينما وُضع المسكين استيفن أمام الأمر الواقع وذهبت منه ماجدولين بمحض إرادتها قرر أن يدفن هذا الحب في أعماقه، وبدأ يرسم لنفسه حياةً ملأها بشتى الأعمال التي أحبها حتى ذاع صيته وعلا شأنه وانشغل بما بين يديه حتى ظن نفسه أنه نسي ما كان، وهكذا المحبون في الفقد ينغمسون في حياتهم وما حولهم حتى يكاد أحدهم يجزم أن الحب شعورٌ مفقود وأنه ناضجٌ بما يكفيه عدم الحب، ثم تتراجع السنوات ويلتقي استيفن – وهو في أوج ازدهاره – ماجدولين رفقة زوجها ليذهبا لتهنئته نجاحه الباهر، رأيناه صامدًا لدرجة قبوله صداقة إدوار مجددا، وقدم مساعدته، وبالوقت ذاته هرب من كل مكان يجمعه معها، حتى اضطرا ذات ليلة للاجتماع، فنُكئت جراحهما وتجددت أحزانهما، فهرب منها استيفن إلى مخبئه.
بآخر الرواية كنت أود لو اجتمعا بعد هروب إدوار ثم انتحاره، وبعد أن عرف كل منهما أن حبه باقٍ بقلب الآخر، لكنّ استيفن أراد أن يعاقبها وينتقم لذلك الحب المؤود بالرغم من حاجته لها، فلو أنه كسر من كبرياء نفسه قليلا وأخذ ماجدولين تحت جناحه لكفاهما ذلك الكثير من البؤس الذي عاشه كليهما.
القصة في مجملها منذ بدء قراءتها وحتى انتهائك منها تجعلك تمسك قلبك.. ربما من منتصفها تمسك دمعك، أما في آخرها فلك حرية الخيار في إطلاق مشاعرك ودموعك وجلجلة صدرك، رسم لنا الكاتب صورة من البؤس آخرها وكأننا حضرنا موت ماجدولين اليائسة ثم لحاق استيفن البائس بها.