مقالات

هل نسعى لخلق نصوص أصيلة؟

غدير


حجم الخط-+=

 

عادةً تأخذ ملامح العمل الأول للكاتب شكلًا خاليًا من الأصالة؛ وذلك لأنه يكون قدّم كل ما يعرفه وقتها حيث تتشكّل كتاباته حسب النماذج التي اطّلع عليها وتأثر بها، ولحداثة تجربته أيضًا إذ لم يتشكّل قلمه بعد. يتطلّب ذلك أن يمر الكاتب بالكثير حتى يخرج بعد عدة تراكمات برأي فريد يخصه قادرًا على خلق أصالته من قضايا تهمّه.

بالحديث عن الأصالة أقول أنها ليست عنصرًا وحيدًا نحققه وتتحقق به، إنها أمور متوالية، وأيضًا لا يعني توفرها أنك أنتجتَ أدبًا أصيلًا بالكامل فالتأثر بالثقافات الأخرى من حولنا وارد. ولكن ما يميز ويمنح العمل أصالته هو أسلوب الكاتب وفرادة طرحه، انطلاقه من موضوعات وقضايا تهمّه ليس بالضرورة أنه عاناها شخصيًا ولكنه يهتم بها، محاولته للتجريب والتجديد وولوج مناطق غير اعتيادية، إسقاطاته على الحياة والبيئة المحيطة به والتوحد الذي يحسه قارئ نصّه.

في مقالة قرأتها لحسين الضو سأورد منها اقتباسا قال فيه “أن الرواية عمل فني لا يقبل التقليد ولا يرضى بأقل من الأصالة، أيضًا عرّج على أن الأعمال العربية متشابهة لأنها تتبع قوالب محددة وتسير في مناطق آمنة وأن أحد عناصر تطورها يعود كتّابها إلى ذواتهم، يجربون وينوعون ويبتكرون أساليب جديدة”. وفي مقالة أخرى لمحمد الجزمي هناك اقتباس آخر يقول فيه: “المسألة ليست ثقافة بلادنا نروّج لها، أنا لستُ مع الترويج لأنفسنا من خلال كتاباتنا، إنما نحن نكتب لقرّاء أغلبهم يعيشون في محيطنا وحينما تُحدث قارئًا من بدو الصحراء عن نهر جنات دجلة، سيفهم هو فطن لكنه لن يشعر بكلماتك.. عن شعور القارئ نتحدث”.

أعتقد أن الموضوع لم يشغل بال كثير من الكتّاب حتّى الآن رغم أن قضايا كالخلود والمجد الأدبي تهمهم! إذًا من باب أولى أن تكون الأصالة عملية تهمك إن كنت تهتم بقضايا كهذه. كل الكتاب الذين بقوا في ذاكرة القراء نجحوا بتقديم كتاباتهم بطريقة ميّزتهم عن غيرهم وإلّا إن كنّا سنكتب كلنا بطريقة مقولبة دون إضافة لمسة ذاتية عليها ما الذي سيجعلها مميّزة؟

 

نحن نتشكّل بالقراءات الكثيرة التي نقرأها ونتخذ منها قدوة، حتى لو كانت بعيدة وخارجة عن بيئتنا ولا مشكلة في ذلك لكن المشكلة عندما لا نفلتر ما استقيناه ولا نستثمر ما تعلمناه منهما ونخرج بنماذج غير متقنة لأنها لا تتقاطع لا مع اهتمامات الكاتب وبيئته ولا تنجح بمسّ شعور القارئ. إن الكنز الذي يملكه الكاتب هو موروث بيئته وأسلوبه، عليه فقط أن يتعلّم كيف يُخرجه بشكل خلّاق. كثير من الكتاب يرغبون بالتحرر من سطوة البيئة والأعراف ولا يرغبون أصلًا بالكتابة عن بيئة عرفوها وألفوها لاعتقادهم أن ما يرغبونه بالتعبير عنه لا يتلاءم مع بيئتهم وهذه نظرة متوقعة نظرًا لأننا كبرنا على نماذج لا تشبهنا واطلعنا أيضًا على نماذج غير جاذبة لما أنتجناه. لكن هذا هو التحدي الذي نحن بحاجة لنخوض غماره، إعادة تعريف للمفاهيم المغلوطة ليس في مجال الكتابة وحسب، بل في كل المجالات عمومًا.

في الرواية الأولى التي أتممتها كنتُ ممتنة لكونها تجربة أولى استطعت إنجازها منذ راودتني فكرة الكتابة في سنوات الإعدادية. وشأن أي إنجاز يقوم به المرء كنتُ أفتخر بها، لكن سرعان ما أدركت أنه ينقصها الكثير. لم تكن مميّزة، ويمكن توقع أحداثها بسهولة، وببساطة هي أقرب إلى ثرثرة. وبسبب أزمة الثقة التي لازمتني بعدها كنتُ أبحث عن نموذج أقارن به كتاباتي لأنني ظننت أن شكل الكتابة يجب أن يخرج في قالب محدد وهذا شيء نفعله كلنا كما أسلفت بسبب حداثة التجربة وطراوة القلم. وهذه العملية عدا كونها مرهقة ومحطمة للأعصاب فإن أول ما تفعله أنها لن تخلق أصالة، وسيعتقد الكاتب أن هناك إطارًا معينًا للنجاح ممّا يعني أن سقفه سيكون محدودًا دائمًا ولن يسعى للتنويع والتجديد، وببساطة لن يملك صوتًا يخصّه.

 

في طريق بحثي عن شيء يجوّد الكتابة عثرتُ على كتب تتحدث عن الصنعة. أجابت على أسئلة كانت تراودني وخلقت لي أسئلة أخرى أيضًا عن كون الرواية ليست فقط حكاية وموضوعا. هناك فنيات، وأدوات، وأساليب، ولعب ومشاكسة. وكما هو معلوم أن القاعدة الوحيدة لكتابة رواية هي أنه لا توجد قاعدة. ربما توجد خطوط عريضة يتفق عليها الجميع لكن حتى هذه يمكن كسرها إذا ما رأى الكاتب ذلك، وهنا تتجلّى عملية خلق نص مبدع.

تبدو فكرة الكتابة -كتابة رواية خاصة- رائعة لأن كل شيء يتعاظم من مجرد فكرة وموقف وينتهي بكتاب بين أناس لا نقابلهم بحياتنا. ما يحدث في عملية الكتابة أننا نكتب من معرفة سابقة، تتراكم بالقراءة، والتجارب، والحياة. وأعتقد أن حاجتنا الطبيعية للتفرد تدفعنا لنجتهد في توسيع مداركنا وتسلّط الضوء على أشياء كنّا نجهلها بأنفسنا، وتُعلّمنا كيف نحسن توظيفها. خلاصة القول أن الأصالة كنز في داخلك؛ وعليك أن تستثمره حتى يميّزك..

 

تعليق واحد

  1. جدا ابدعتي بالسرد و بالكتابة و انتقاء الكلمات اخت غدير..
    فعلآ الكتابه هي باب اخر يدفعنا على عالم آخر ما اسميه بالعالم الأدبي و القراءه، هي لغة اخرة للتحدث عن أمور عانى منها الكاتب ومن جهه أخرى أمور احبها و أراد التعمق فيها و التحدث فيها.

    سلمت اناملك ♡︎♡︎

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى