مترجم

التعبير عن الفقد في الكتابة، نوعٌ من الحب

ترجمة: مرام


حجم الخط-+=

 

 

بقلم أوني نوابينلي

في صباح يومٍ دراسي، في شهر شباط، عندما كنت في الثانية عشر من عمري، فزعت من نومٍ هانئ وأُقحمت في عالمٍ لم يعد خالي ثيو موجودًا فيه، كانت صيحة أمي ما أيقظني.. صوتٌ لم أسمعه من قبل .. صوتٌ أصبح بعدها مرتبطًا بكل أشكال الحِداد ولوعة الفقد.  

كل ما أتذكره كان وقوفي على نهاية سرير والديّ، حافية القدمين خائفةً، أشاهد والدي يبذل ما بوسعه ليواسي أمي في فقيدها، بينما لم يكن حضوري ذا جدوى، لكنني اكتشفت آنذاك شيئًا فظيعًا رغم كوني طفلة لا تعي وهو أن للأسى طبعٌ يشبه الجنون، حيث يشكّلنا في قوالب بطرق لم نتخيّل أننا ننحني بها، بطرق فوضوية وقد تشكّل إنذارًا بالخطر.

تَلى وفاة خالي ثيو عدة خسارات أخرى كانت بمثابة صفعات فريدة من نوعها ومألوفةً في الآن ذاته.

 

كبِرنا أنا وإخوتي وتعلمنا أن التحلّي برباطة الجأش عندما تجتاحنا الآلام هو أفضل ما يمكننا فعله، لكن رؤية الفقد على وجهي والدينا، والذين هم بمثابة ركيزتي الحياة الأساسيتين لم يكن هيّنًا أبدًا. كان درسًا من دروس الحياة التي لا بد من تعلمها، درسًا أظهر لنا بطريقة قاسية أنهما ليسا سوى بشر وأن طبيعة البشر مثيرة للعجب. عندما ترى بَطليك ينهاران أمام ناظريك تشعر كما لو أن الأرض بأكملها انهارت تحت قدميك.. 

 

عندما تكتب عن أسى الفقد في عملك الأدبي، تترك أجزاًء منك، بوعيك أو دونه، لتحيا في كلماتك على الورق..

لِتسرد مرة أخرى تجربتك، حتى وإن بذلت قصارى جهدك في مواراة حياتك الشخصية عن النص.

 

 عندما فقدت صديقتي في حادث عزانّي العديد من الناس، قدموا أحر التعازي وحدثوني عن كم الأسى الذي يشعرون به نتيجة ما حصل وأنه ما كان ينبغي لفتاة صغيرة أن ترحل، وصدقتهم لأنها كانت طفلةً آنذاك وكذلك كنت أنا، وبالطبع بدا كما لو أن الأطفال محصنين من الموت، فلم أعقِل معنى ما حدث، تساءلتُ لمَاذا لم أستطع فهم ما أشعر به؟

 

بداخل جسدي الصغير كانت تتكسّر موجة عاتية من الحيرة مرةً تلو الأخرى، أعطاني والداي مُفكرة زُين غلافها بطبعات الزهور وفعلت ما بوسعي كي أفك غموض ما كان يشوّش ذهني على صفحاتها المسطّرة، فذُهلت حينها كيف أن الكتابة ساعدتني كثيرًا، وفي وقتٍ قصير، كانت لم تزل لدي الكثير من الأسئلة لم تلقَ جوابًا بعد، لكنني فرّغت ما بداخلي من مشاعر وشعرت بالارتياح عندما كتبت.

 

تصعب الكتابة عن ألم الفقد والقراءة عنه أصعب كذلك، إذ يستحيل عليك الهرب منه، بل يجب عليك مواجهته وعلاجه، كانت تجربتي بالكتابة عن الفقد والانتحار أشبه بمنحنى تعليمي، انزلقت به مرارًا وتكرارًا حتى عرفته، وآمل أن مشاركتي للفهم الذي توصلا وصلت إليه ستطمئن الكُتّاب الذين ترتعش الأقلام في أيديهم، خوفًا من توظيف أحزانهم في أعمالهم.

 

على الرغم من ضرورة تخصيص وقت للحداد، والتحكم بالشعور و تأثيره وتقليصه إلى شيء يُمكن العيش معه على صعيد الحياة اليومية، إلا أن ذلك لا يعكس واقع الكثيرٍ ، وبما أنه لا توجد طريقة واحدة للكتابة عن الفقدان، ركزت وبشكل جوهري ألا أكتب بأسلوب الكتابة المعتاد، الذي يُزعم أنه يناسب الجميع. فكرة الموت مُنفِرة لكننا توصلنا إلى تقبّلها على حذر كما نفعل مع معظم أمور الحياة، إن حتمية الموت لا تعني تيقننا من كيفية التعامل معه والانتحار لا يزيد الأمر تعقيدًا فحسب، بل يقطع كل سبلنا في استيعابه. 

 

من علاقة الكاتب باللغة –سواءً حقيقية أو تقديرية- أن يكون قادرًا على تحليل ما لا يمكن تفسيره.. أن يضيء شُعلته لتكشف الخبايا، إن الانبهار والهوس البشري بالموت من طبيعة البشر، يعني أن على عاتق الكُتّاب إشباع هذا الفضول بتقديم أجوبة مرضية. نحن مخلوقات نتمتع بالسلطة والموت يسلبنا إياها، لذلك نبحث بيأس عن أي سبب يمكن أن يخفّف من وطأة خبر موت أحدهم: فلان تُوفي إثر إصابته بجلطة في الدم، وتلك توفيّت بعد صراعها مع السرطان، السبب حادث سيارة.

 

قد نظنّ أن وجود السبب يعني سهولة التعامل مع ألم الفَقد، ألهذا نسارع لمعرفة كيف انتحر شخصٌ ما؟ والأهم من هذا لم!  الحاجة إلى خلق معنى مما يحدث حولنا طبيعةٌ متأصّلة في نفوس البشر، حتى لو كان الأمر مجرّد وحي خيال أو افتراض، الكتابة عن ألم الفقد عندما يكون هذا الفقد ناجمًا عن الانتحار تعني الموازنة بين الألم الذي لا يرحم وتحمل الشعور بالضغط الناتج عن زيادة التحفّظ في الكتابة، كتبت أول رواية لي بعنوان “ربما يومًا ما” بينما كنت أعرف توق القرّاء لرؤية الشخصيات التي عانت تتعافى وتخطوا خطواتها نحو حياةً أفضل.    

 

كتبت هذه الرواية وأنا على دراية بأننا نحن البشر لا نحب أن تلتبس علينا الأمور، بل يُهمنا أن نبقى على يقين، كانت الأسئلة نفسها تدور في ذهن بطلة الرواية إيف لكن أساها الشديد دفع القارئ لطرح أسئلة أخرى مثل: هل ستكون إيف بخير؟ كيف يمكنها تخطّي ما حدث؟ هل كانت على علم بأن زوجها كان ينوي الانتحار؟  وبذلك يحدث تطوّر في سرد الرواية بتطويع ألم إيف واستخدامه في إرضاء توقعات القرّاء حتى وهم يواجهون الفضول الذي يراودهم بسبب الموت. 

 

تصعب الكتابة عن ألم الفقد وقراءته أصعب، إذ يستحيل الهرب منه ويجب مواجهته وعلاجه.

 

نحبّ أن نضع مسافةً بيننا وبين حقيقة الموت، نوجه تركيزنا وأنظارنا على ألم الفقد بمظاهره المعنوية والحسية متجنبين النظر في عيني الموت، ينفر الناس من الانتحار بقدر ما يُصابون بالدهشة منه، يعاملونه وكأنه مرضٌ معدي فيتصدون للرغبة المُلحّة في الإثارة والخوف التي ترتبطان به وعندما تُقترن بألم الفقد أيضًا سيشعرون بأنهم غارقون داخل بحرٍ من المشاعر، أردت توضيح هذه السلوكيات واستكشاف أسباب حدوثها، وما زلت أصر على أن الهرب من بشاعة ألم الفقد تفويت لجماله، والخجل من إظهار الحِداد يقلل من أهميته.  

 

 

أمضيت وقتًا في الكتابة عن الجانب النظري لواقع الحزن وعلاقته بالصحة النفسية والانتحار، عبّرت عن كيفية استيعابنا لآلام الآخرين بل كيف أننا غالبًا نعتبرها آلامًا تخصّنا، وعبّرت عن ألم الخيانة التي نحس بها أثناء الفقد حين يفشل الجسد والعقل ويرفضا ببساطة التآزر معًا، وكيف أن الفقد يتشبّع  في تفاصيل الحياة اليومية، كالواجبات والمهامّ وبعض المشاعر الأخرى التي تكون بمثابة يدٍ ثابتة تدفعك من ظهرك إلى الأمام حتى وإن كنت ترفض المضي قدمًا، تُعد هذه وسيلة رائعة يستخدمها الكُتّاب لتحريك الحبكة، وسيلة لا تقتصر على شرح معاناة الشخصية شرحًا صريحًا فقط، بل وتصوّر كيفية تفاعلهم مع العالم من حولهم ومع أنفسهم. 

 

نادرًا ما نشعر بالفقد وحده، فدائمًا ما يأتي برفقة مشاعر أخرى كالغضب والندم والارتياح، كنت أهدف إلى التأكد من احتوائهم جميعًا في أعمالي، بكل ما فيهم من فوضى، هذه المشاعر شأنها شأن الأسى والألم وكان لا بدّ لي من نقلها، كما كان الحال نفسه مع اللحظات التي خفّت فيها وطأة الكمَد. هل يستشعر المرء الفقد في كل شيء؟ بلا شك، لكن هل هذا يعني بأن الفقد سينجح في حجب حتى أصغر شعاع من أشعة الشمس؟ هل سيكتم تلك الضحكة الخافتة التي تنطلق بعد قراءة تعليقٍ من أحد أفراد العائلة؟ ماذا عن تلك الابتسامة العريضة بعد قراءة تغريدة هل سيمنعها أن تظهر أيضًا؟ 

 

سأجاوب بِلا، وسأضيف أيضًا أن تزويد القصة بحس الفكاهة والخفة يضيف طابعًا من الواقعية، فالحزن يأخذ الكثير من المساحة ولكنه يستحقها كي يُزهر ويتوسع، لكنه مثل كل الأشياء سيتقلّص عاجلًا أم آجلًا، بمرور الوقت سيأخذ مساحة أقل وبينما يُبقي الحزن لسعته الحادّة سيتوقف عن إيلام الشخص بشكلٍ مستمر، وفي وقتٍ ما سيشعر الشخص وكأنه يحدّق في الحزن من وراء قطعة شاش: بنظرة لا تقل واقعيّة لكن منظورها يختلف، بدل أن يكون قريبًا، سيرى الحزن من منظور المسافة، يبعد ويبعد مع مرور الوقت، وكأنه ينظر إليه من الجانب الآخر، بينما يقاوم رغبته المُلحّة لحصره في مرحلة معيّنة من الحياة أو تجربة واحدة أو شعورٍ واحد بحدّ ذاته.

 

عندما تكتب عن أسى الفقد في عملك الأدبي، تترك أجزاًء منك، بوعيك أو دونه، لتحيا في كلماتك على الورق..

 لِتسرد مرة أخرى تجربتك، حتى وإن بذلت قصارى جهدك في مواراة حياتك الشخصية عن النص. وبينما لا يسعك أن تستوعب ما يتأصل فيك من عادات، تعودت أن أعود للمُذكّرة المُزينة بالورود، التي كانت مثل بذرة تتفتح لي كلما فقدت عزيزًا، تناديني كي أريح ما بي من مشاعر على أوراقها.

 

أما أعمالي، يعيش خالدًا فيها خالي ثيو وعمتي جولي وعمي سوبريم، وأيضًا سام والخالة قلوريا وأشخاص أخرين، لذلك أقول الفقد حب، وتخليد هذا الحب في الكتابة الأدبية عملٌ نابعٌ من الحُب.

 

تدقيق: زكية العتيبي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى