مترجم

عن الكتابة السينمائية ” تجسيد للطريقة التي نرى بها”

ترجمة: صفاء صالح


حجم الخط-+=

 

للكاتب: روي بيتر كلارك

علمني المؤلف ديفيد فينكل طريقة الوصف السينمائي، وقال، العامل الأساسي لكتابة قصة تبدو وكأنها فيلم، أن تصبح في كتابتك، كالمصور السينمائي الذي يستخدم زوايا آلة التصوير المختلفة، من اللقطات ذات الزوايا الواسعة إلى المقربة للغاية. ولكتابة قصة بهذا الطابع، اقترح مدرب الكتابة دونالد موراي أن يقوم المؤلف “بتغيير المسافة بينه وبين موضوعه”. فإذا كنت في ساحة معركة، يعني ذلك أن تقف على قمة التل لمراقبة ووصف ساحة المعركة تحتك، ثم تقترب بما يكفي لقراءة الوشم على ظهر يد الجُندي أمامك. لكن في الوقت الحاضر، يمكن التقاط مثل هذه الصور على شكل صور ثابتة أو مقاطع متحركة باستخدام الجوال؛ أما بالنسبة للكاتب المُخلص في عمله، فإن دفتره أجود أنواع آلات التصوير.  

 

أين تعلم المبدعون في مجال السينما الكتابة السينمائية؟ هنالك سوابق للفنون البصرية في التاريخ بدايةً من رسومات الكهف إلى المنسوجات ورسم المناظر الطبيعية والصور الشخصية والصور الفوتوغرافية؛ بعض هذه الفنون صوّرت مشاهدًا عن بعد وأخريات عن قُرب. ولكن السؤال هو من أين تعلم فنانوا هذا المجال إتقان أساليب تصوير المسافة والمنظور ووجهة النظر؟

أنا الآن على وشك إثبات أن الشاعر وكُتّاب النصوص هم أول من ابتكر وحسن أشكال التأليف البصري. ومما لا شك فيه هو أن الشاعر هوميروس قد تألق في هذا، فيبرع تارةٍ في تصوير المشاهد الجماعية مثل:

“وسرعان ما اكتظ المكان وامتلأت الكراسي، بجموعٍ غفيرة قد تحشدت لرؤية ابن لارتس، العقل المدبر للحرب.”

 

وفي تارةٍ أخرى يبدع في وصف المشاهد القريبة، مثلما وصف عودة أوديسيوس لموطنه بعد أن غاب لعشرين عامًا، حيث تعرفت عليه ممرضته العجوز بسبب ندبٍ لحق به قديمًا من عضة أنياب خنزير بري حادة. كان وصفه للحظة واضحًا ويشد الحواس:

“كانت هذه هي الندبة،

 الذي تعرفت عليها الممرضة العجوز؛ 

تحسستها بباطن كفيها، 

ثم ابتعدت ليقع الطست النحاسي بجانب قدميها، 

مُخلفًا ورآه صوتًا مدويًا، قرع النحاس ثم انسكب الماء منه.”

 

أحيانًا تكون هناك صور واضحة يوصلها الراوي إلى الجمهور، لكن على مستوى أكثر تعقيد ودقة، يمكن أن تظهر هذه الصور من خلال عيني شخصيةٍ ما أو عدة شخصيات. وأحد مسميات هذا التأثير هو “وجهة النظر”، فنرى ما تراه الشخصية وما تشعر به– مثل رؤيتنا لندب البطل الذي عاد مجددًا، من عيني وأنامل ممرضته العجوز.

 

ومن أكثر الأمثلة المثيرة للاهتمام والمقشعرة للأبدان للكِتابة المرئية قبل السينمائية، تأتي من الشاعر الروماني فيرجيل، مؤلف ملحمة «الإنياذة». حيث وصف عاصفة قوية في البحر في ترجمة لروبرت فاجليس (2006):

 

“تندفع ريحٌ شديدة من الشمال لترتطم بالأشرعة

 ترفع بالموج إلى وجه السماء. 

فتحطمت المجاديف، وانحرفت السفن،

 وارتطمت جوانب أسطول إينياس بأمواجٍ مندفعة وعالية كالجبال، 

تشبث بعض الرجال بقمم الأمواج، 

والبعض كلما أنشق البحر نظروا من بين موجهِ إلى القاع الذي ينتظرهم،

 موجٌ مُكلل بالرمل.”

 

لنفهم أولًا ما كُتب هنا. من خلال وصف الراوي  نرى رياحًا ترتطم بالشراع، نرى ارتفاع الأمواج لأعلى السفينة ثم هبوطها وتأرجحُها وتحطم المجاديف. الأمواج بارتفاع الجبل، وبعض الرجال زاحوا عن متن السفينة يتمسكون بالحواف وينظرون للأسفل. إلى ماذ ينظرون؟ إلى قاع البحر الرملي، المكان الذي ينتظرهم؛ قبرهم المُترَّب والمائي.

 

 صَور فيرجيل المشهد البحري الأخَّاذ للبحارة الغارقين مستخدمًا الوصف الكتابي قبل ألفي عام، أي قبل أن يحلم أي شخص بوجود اللقطات الجوية أو المؤثرات الخاصة مثل تلك المستخدمة في فيلم «تيتانيك» أو «العاصفة المثالية».

 

لا يزال المفهوم السينمائي عن رؤية الأشياء من على مسافة بعيدة، ثم تقريب الصورة هي أحد الأساليب المفضلة لصُنّاع الأفلام. أظهر لنا المخرج ألفريد هتشكوك كيف يمكننا التقاط ذلك في لقطة واحدة فقط في فيلم «سيئة السمعة» (1946)، من بطولة كاري غرانت وأنغريد بيرغمان، حيث تظهر بطلة الفيلم في مشهد احتفال في قصر ضخم ويتم تصويرها من زاوية مرتفعة من أعلى سُلم حلزوني طويل. تبدو شخصية بيرغمان هادئة واجتماعية، تتحدث هي وكلود راينس–النازي السابق– ويحيون الضيوف، حتى تتحرك الكاميرا في الهواء وتقترب ببطء متجهة إلى جانبها الأيسر نزولاً إلى كفها المنقبض، ثم تبسطه ببطء، وتقترب اللقطة ثوانٍ معدودة ليظهر المفتاح الذي تحمله. دام هذا المشهد حوالي 40 ثانية فقط.

 

بينما وصفتُ هذه الحركات– من المشاهد القريبة إلى البعيدة– على النحو السينمائي أو الأدبي، فإن ما يجعل الحركة عاملًا قويًا هي القدرة البشرية؛ فالسر يكمن في الطريقة التي نرى بها.  أجلسُ ها هنا على حاسوبي وأرى تتبع الحروف على الشاشة بينما تتحرك يدي حول لوحة المفاتيح. انظر إلى الأعلى عن يميني لأرى ملصقًا على الجدار لحملةٍ سياسية من عام 1930 قد شارك بها جدي بيتر مارينو، أنقل نظري إلى الأسفل ليدي اليسرى لأرى ندبًا صغيرًا على شكل نجمة أُصبت به قبل 30 عامًا في لعبة كرة القاعدة. والآن أنظر إلى الأعلى فأرى من خلال المنور فوق مكتبي بصيص نورٍ وسماءٍ زرقاء، وعوارض خشب البلوط المتقاطعة. فأعيد ببصري إلى شاشة الحاسب الآلي ويدور في ذهني: لوحة مفاتيح، وملصق، وندب، ومنور، ولوحة المفاتيح مجددًا.

 

لماذا تحول دفترك إلى آلة تصوير؟ عند الحديث عن اقتران المهارة بالهدف، فقد عبر عنها الروائي جوزيف كونراد خير تعبير حين قال:

“تكمن رسالتي في قوة الكلمات المكتوبة، لأجعلك تسمعها وتشعر بها، وقبل كل شيء، تراها. لا أقل ولا أكثر. فإذا نجحَ مسعاي فستنال ما تنال؛ من التشجيع والمواساة والخوف والإذهال– وجميع ما ترغب به، وربما قد تجد لمحةً من الحقيقة.” 

بالمختصر، أجعلني أرى.

 

تحرير: منى الشمري

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى