قصص قصيرة

الحذاء الأخضر

محمد الأحمدي


حجم الخط-+=

 

1419هـ:

وُلدِت وحيدتي، قُرّة عيني، ابنتي الغالية، لم تبكِ عند ولادتها إلا لحظات الانتقال المرعبة من الرحم المعتم إلى الضوء المشع لغرفة الولادة. ومنذ وضعتها الممرضة عاريةً على صدر أمها لم نسمع نحيبها ولا مرة طيلة تسع سنوات. عند جوعها كانت تقطّب جبينها وتمط شفتيها، وعند اللعب تناغي وتتحدث بلغة العصافير. لم أعتقد يومًا أني أنا -الأناني بطبعي- سأفدي نفسي أحدًا، ولكنّي لن أتردد للحظة، يا الله، اجعلني أفديها بنفسي. حلَمت قبل ولادتها بيومين بضوءٍ مشع ظننته ملاكًا أو رجلًا صالحًا ربت على كتفي وأخبرني: “رزقك الله فرحة”. فأسميتها فرحة. ربي لا ترني بفرحتي مكروه.

 

1427هـ:

فرحتي في المدرسة الآن. في الصف الثالث الابتدائي، يعزّ علي أن تدخل للصف الثالث وهي لم تكمل سنينها الثمانية، ففرحتي كانت كلقمةً صغيرة لذيذة لا حاجة لتُلاكَ حتى تذوب. كبرت على المناغاة لكنها ما زالت تتحدث بعذوبة وتلقائية طفلٍ لا يدرك ما يقول. ورزقها ربي بصراحةٍ معززة بعقلٍ فطن يفزعني أحيانًا فتقول: “يا أبي، أنت تظن أنك غاضبٌ من ماما لأنها أخبرتك بذاك، ولكنك في الحقيقة غاضبٌ من نفسك لأنك لم تفعل كذا وكذا” فأنهرها ثم تلاطفني بتمرير شفتيها وأنفها على وجنتي اليمنى وتدندن “الحلوة زعلانة” فسرعان ما أنسى غضبي.

عندما أدخلناها المدرسة طلبت حذاءً أخضر بمشطٍ أبيض كما رأت في التفاز، بحثت عن الحذاء ثلاث ليالٍ حتى ضقت بطلبها ذرعًا ولكنها لاعبتني بكلماتها كما يُلاعَب الطفل إذ قالت: “يا بابا، اعذر وحيدتك على غنجها وطلباتها المعقدة، ولستُ كذلك إلا لأنك أبي الذي غنجني ولبّى طلباتي. فإن دل دلالي على شيء فهو يدل على أنك خير الأب لوحيدتك المدللة” فمدتني كلماتها بطاقةٍ لأبحث ثلاث أيامٍ أخرى حتى وجدت الحذاء المناسب لساندريلا الشقية ذات اللسان العذب.

رأيتها تسهر تلك الليلة لترسم قلوبًا على جانبي الفردتين ثم تلون دواخلها. ركضت لأمها لتريها القلوب على حذائها ثم أرتني وكمن أحس بتعليقاتي الساخرة باغتتني قائلة: “ما رأيك بابا؟ أوليس البحث يستحق العناء الآن؟ انظر إلى هذه القلوب العشرة، تمثّل أصابع قدمي العشرة” ووقفت في بلادةٍ وضحكت ثم قالت: “يوه، ما حسبت أصابع يدي!” اعتصرتها ولثمت خديها وراقبت مشط حذائها وهي مغادرةٌ لمدرستها ذاك الصباح، كانت تمشي مختالةً وترفع قدميها ليرى لكل من يقابلها القلوب على مشط حذائها، يا لقلبي الذي سرقتيه يا فرحة، أما تعيدون لي فرحتي؟

 

1428هـ:

أحاط بي رجال الشرطة ليخففوا عني، دون جدوى، أخبرني أحدهم: “تصبّر يا أبو فرحة، بترجع!” فصرخت في غضبٍ حانق، كيف لي أن أتصبر وأنت لتوك ذكرت سبب نفاد صبري؟

سهرتُ الليالي، وأُتلِفت أعصابي، وأصبحت لا أطيق بيتي ولا أجلس فيه إلا في غرفة فرحتي، بكى كل شيءٍ فيني إلا مدامعي. فرحتي لم تنزل ذاك اليوم بعد انتهاء حصصها، وبعد ساعات أخبرني الحارس الحائر: “فرحة لم تداوم اليوم!”

مرّت الأيام، ولم أُشفَ أو أنسَ، فرحتي خُطفِت حسب محضر الشرطة، هُدِم زواجي بأمها، فتطلقنا، وهُدِمت حياتي المهنية، ففصلت من عملي، طالت لحيتي وانحسر شعري عن مقدمة رأسي، جفت وجنتاي فبرزت عظامي. وفرحتي لم تعد.

 

1429هـ: 

“وجدناها” أخبرني الشرطي بنبرة أسىً وتعاطف قبل أن يريني الخبر اليقين:

حذاء فرحتي الأخضر وقلوبه العشرة مرسومة على المشط وقد كساه الغبار وصبغت قلوبها العشرة بالدماء الحمراء الجافة.

 

تدقيق: حسناء الزهراني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى