محتوى مترجم

في وداع غابو ومرسيدس: استذكار ابن غابرييل غارسيا ماركيز لوفاة عملاق الأدب

ترجمة: رفا صالح


حجم الخط-+=
غابرييل غارسيا ماركيز في منزله، يأخذ قيلولة يوم الثلاثاء. غارسيا ماركيز، الذي توفي عام 2014، يتذكره ابنه في مذكراته “وداعًا لغابو ومرسيدس”. (أرشيف عائلة غارسيا ماركيز)

بينما كان غابرييل غارسيا ماركيز، الساحر الأدبي يحتضر، اُكتشف طائر متوفى حديثًا  في منزله  وتحديدًا على الأريكة، حيث اعتاد ماركيز، الفائز بجائزة نوبل الجلوس .

انقسم عمال المنزل حول ما يجب القيام به. اعتقد نصفهم “حاملي القمامة” أنه نذير شؤم يجب أن يتخلصوا منه. أما النصف الآخر فاعتقد أنه فأل خير يجب أن يكرّم بدفن الحيوان بين الزهور في حديقة المنزل.

وفي النهاية، دُفن الطائر في الحديقة.

بعد فترة وجيزة من اكتشاف الطائر الميت على الأريكة، وعندما فقد العالم المايسترو الكولومبي في عام 2014، عن عمر يناهز 87 سنة، بعد سنوات معاناة من آثار الخرف. أرسل أحد الأصدقاء بريدًا إلكترونيًا إلى سكرتير غارسيا ماركيز ليُشير إلى صدفة غريبة. توفي المؤلف في يوم الخميس، وهو نفس اليوم المقدس لواحدة من أكثر شخصياته رسوخًا، أورسولا إيغواران، الأم في عمله العظيم مائة عام من العزلة، التي توفت عن عمر يناهز 120 عامًا، وكانت ظروف وفاتها مصحوبة بطيور مرتبكة تصطدم بالجدران وتسقط لحتفها.

عندما علم رودريغو غارسيا ابن غارسيا ماركيز بهذه المصادفة، لم يبدِ أي رأي حولها.

كل ما أعرفه هو أنني على أحر من الجمر، لإعادة سردها.

هذا ما كتب رودريغو غارسيا في كتابه التأملي عن وفاة والدته ووالده، في وداع غابو ومرسيدس: مذكرات عن غابرييل غارسيا ماركيز ومرسيدس بارتشا.

تمامًا كما فعل بحادثة الطير وقت وفاة والده، تجنب رودريغو ربط والده غارسيا ماركيز بالشخصيات المعقدة في أعمال والده.

وكتب بدلاً من ذلك، تاريخًا حميميًا ومثيرًا للدهشة من الحزن والتقبل، نجح في تقديم لمحة عن إحدى أشهر الشخصيات الأدبية بكل العصور. على الرغم من أن الكتاب بالكاد يتحدث عن كل شيء، إلا أنه يسرد بعض الحكايات المثيرة للاهتمام. على سبيل المثال:

 

يكشف رودريغو أن والده غارسيا ماركيز لم يحب الاحتفاظ بمسودات أولية لكتبه، لذلك عندما كان رودريغو وشقيقه غونزالو صغيرين، طلب منهم غارسيا ماركيز الجلوس على أرضية مكتبه ومساعدته في تمزيق نسخ كاملة من عمله والتخلص منها. أيقن تمامًا أن ما ذكرت ليس مشهدًا سعيدًا لكل كاتب مبتدئ يشارك ماركيز الطموح.

يتأمل رودريغو أثناء التنقل بين لوس أنجلوس ومكسيكو سيتي:

أشعر بالفزع لأنني أفكر في تدوين الملاحظات ربما يكون من الأفضل رفض رغبة الكتابة عن والدي والبقاء متواضعًا….

لكن هناك حاجة غريزية عند بعض الأبناء لإنهاء أعمال آبائهم. عند قراءة ذكريات رودريغو، يستوعب المرء هذه الفكرة، أنه قد شعر بمثل هذه الرغبة – سواء كان يعي ذلك أم لا.

أحد أكثر الأشياء التي كرهها والدي عن الموت، أنه الجانب الوحيد من حياته الذي لن يكون قادرًا على الكتابة عنه.

في تلك الساعات التي ينزلق فيها والده بعيدًا، ويتضاءل جسديًا وعقليًا، ويقترب من النهاية، يُنفس رودريغو عن مشاعره التي يصعب التحكم بها.

عندما رحل والده، وجد رودريغو نفسه مندهشًا من “المقياس الإنساني” لعملاق الأدب. وبالنسبة له، فكرة استيعاب الناس لإنسانية والده وموته مرعبة ومريحة في الوقت نفسه.

موت غابرييل غارسيا ماركيز ليس بموتٍ عادي، أشعرنا بالخداع، تَرَكَنا مُبتكر هذه الحبكات المتعرجة دون بعض الحيل؟ لحسن حظنا خفف تعامل ابنه رودريغو من التوتر، وصف كيف فشلت خطة العائلة بإعلان الوفاة حيث أن الصحفيين المختارين مسبقًا كانوا في عطلة دينية. وانتهى المطاف بعائلة ماركيز يطلبون من صديق شخصية إذاعية بإعلان الوفاة على وسائل التواصل الاجتماعي.

 

غارسيا ماركيز ومرسيدس بارتشا في صباح اليوم الذي فاز فيه بجائزة نوبل عام 1982. (أرشيف عائلة غارسيا ماركيز)

في دار الجنائز، استقبل رودريغو وأفراد الأسرة الآخرين امرأة شابة جذابة بزي المستشفى. فكر رودريغو بداخله أنه لو كان والده على قيد الحياة، لغازلها.

على الرغم من أنه لم يُطلب منها القيام بذلك، إلا أن المرأة رتبت مظهره، مشطت شعره، وقصت شاربه وحاجبيه الجامحين. سعد رودريغو لأنه رأى والده بهذا المنظر الحسن وقت الوداع، صورة أخيرة تشبه الرجل الذي نشأ معه.

انحنى عمال الجنائز بينما وضعوا والده على الحزام الناقل، واختفى غابرييل غارسيا ماركيز عندما أُدخل رأسه في الهوة، وكتفيه مع بقية جسده خارجها. تقدم العامل وضغط بقوة على كتفيه لينزلق داخلها، غرق غابو أخيرًا في اللهب. كتب رودريغو:

مشهد دخول جسد والدي لغرفة حرق الجثث ساحر ومخدر. يُشعرني بحمل مستحيل لا معنى له.

كما يوحي العنوان، فإن الكتاب ليس تكريمًا للكاتب غابرييل ماركيز وحده، ولكن أيضًا لمرسيديس بارتشا، زوجته، التي توفيت في أغسطس 2020.

عند فقدان والديه، أعرب رودريغو عن بعض الندم:

لم أعرفهم بما فيه الكفاية، بالتأكيد كلي أسف لأنني لم أسأل المزيد عن التفاصيل الدقيقة لحياتهم، وأكثر أفكارهم خصوصية.

لكن كتابه “في وداع غابو ومرسيدس “يكشف أكثر من ذلك، فربما أنه كان يعرفهم معرفة أعمق مما أدرك. وبفضل معرفته، عرفنا ماركيز ومرسيديس معرفة أعمق.

 

للكاتب: مانويل رويغ فرانزيا.

تدقيق : زكية العتيبي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى