وقعت قبل فترة على كتاب، شدني عنوانه اللامع المعدّ ليجذب الإنتباه فتصفحته بنظرة المستكشفين المُبحرين بلا هدى بحثًا عن كنزٍ يصادف إبحارهم، كان معنونًا بــ”كيف تفكر مثل هولمز”.
ومن لا تواتيه رغبةٌ في التفكير مثل أحذق عقول الاستنتاج والتفكير ومعرفة كيفية حله لأعتى الألغاز؟ ومن لا يرغب في امتلاك قدرة عد الخطوات بين بيته وعمله دونما أدنى مشقة لشدة انتباهه؟ أو أن يُرزق بيقظة تجعله يعلم إذا ما كان الشخص يُعاني من قصر النظر بمجرد نظرةٍ على كيفية قرائته للجريدة؟
قد يضمن الكتاب لنفسه المُتهافتين لضمّه لرفوف كتبهم، خصوصًا في زمنٍ بات الشخص يشتكي ويلات تشوش الانتباه وانعدامه وكثرة مشتتاته، لكن، ماذا لو كان بجواره كتابٌ آخر يحمل عنوانًا كأخيه فعوضًا عن هولمز، كان كاتبًا لن ينفعك بشكلٍ مباشر التفكير مثله.
لنقل، أيمكن أن يُحب الإنسان الذي لا يشغله من كافكا سوى أعماله، تجربة تفكيره والطريقة التي رأى من خلالها أرضه وحياته وسمائه؟
تقمص العقل والمشاعر والتجارب
قد تسأل: بصفتي قارئًا هل علي تقمص عقل الكاتب وإستثقال أوجاعه فوق أوجاعي وعيش ذلك الزمن أو أن أشهد تلك الحرب وأزيد فوق اكتئابي اكتئابًا ليس لي وأنا آتٍ للقصص لا أكثر؟ لا ليس عليك، لكن ألا توّد ذلك؟
فمثلًا يعرف الكثير قصيدة المؤنسة لإمرؤ القيس، والبعض الذين فتشوا عن حكايتها الموجعة ولِما سُميت المؤنسة وقضوا شطرًا من الوقت بالعيش ولو قليلًا داخل عقل قائلها، وجدوا أنفسهم قد أرتبطوا بها عاطفيًا إرتباطًا وثيقًا، وتركت بهم أثرًا أعمق مقارنةً بالذين يعرفون القصيدة ويقدرون جمالها الظاهر كقطعةٍ فنيةٍ مستقلة.
فأنت عندما تُقدم لك الفكرة أو الأدب فقط دون شيءٍ غيرهما، لن تصل لك مشاعر كاتبها ومقاصده إلا بالقدر الذي تسمح به مساحة الفكرة، وقد تُصيب حينًا أو تخيب، ومن الممكن أن يكون الأمر إيجابيًا وساحرًا فتصبح فكرةً يستطيع الكُل أن يسقط رؤيته ومشاعره عليها فتتحمل بذلك عدة معاني بالإضافة إلى معنى الكاتب نفسه، لكن ذلك نادر الحدوث.
وتُعتبر مهارة إيصال أكبر قدرٍ من وضوح الفكرة وقوتها في تلك المساحة الضيقة مهارةً يُحسد عليها الكاتب لصعوبة نيلها لإنه بطبيعة الحال، القارئ يوّد أن يفكر كهولمز وليس مثل كاتبٍ بسيط، لذا الوقت المحدود في إثارة القارئ محدودٌ وقيّم.
تفكيك الكاتب والكتاب
قد يطيب لخيالنا المضي في فكرة عالمٍ موازٍ لا يكون فيه الانتباه إلى فهم القارئ وإثارة فضوله هما المحورين الأكثر أهمية للكاتب، ماذا لو انقلبت الموازين وكنا في عالمٍ يكون فيه القارئ متحملًا لمسؤولية فهم الكاتب عوضًا عن العكس لينتقل من حالة تلقي الفكرة لمطاردتها؟ وما هي التغييرات التي ستحدث في تضاريس عملية قراءة غير مألوفة كتلك؟
فالكتابة لُغز دفين وكل كتاب يملك فكرة مخبأة في عمق صندوق مقفل تنتظر من يحل لغزها، لا يعرف فكها سوى كاتبها، مثل جرائم ضواحي لندن التي يحلها هولمز، فالجريمة لا يعرف فك عقدتها سوى المجرم ومن “نجح في الوصول إلى الحل” وليصل هولمز إلى حل القضية التي يغفل عن تفاصيلها أغلب المحققين -بسبب نظرهم من مناظير أنفسهم فقط- كان المحقق الحذق يُفكر مثل المجرم إلى حد معرفته لكيف يزفر كل نفس، وفي أغلب القضايا يكون الحل واضحًا جدًا مما يثير دهشة العاملين معه على القضية، لكنك عندما ترى العالم من خلال عينيك أنت فقط، ستفوت أكثر الأمور وضوحًا لحل أي لغز، سواءً كان كتابًا أو كاتبًا أو حتى من سرق مشروبًا وضعته في الثلاجة في وضح النهار.
وقِس على ذلك، أي كتابٍ أحببته فأنتهيت منه، أأنت متأكدٌ أنك تعلم كل أسراره؟ أما أن بها لغزًا مثيرًا لم تحط به علمًا بعد؟ فالقصص تُكتب لتعاش، وتحيا روح كاتبها بها أيضًا، فهو جزءٌ من نسيج النص المتماسك كما الحكاية.