لم تستحثني الأسئلة لبناء ذكرى، وماكان لها في ذهني أرضٌ إلا حينما لم أجد لوالدي داخلي ذكرى، فسددت اغترابه بصور شتى، بنيتها صورة تلو صورة.
حاصرتني أسئلة الطلاب في اليوم الأول من خطواتي الدراسية:
- أين والدك، لماذا لم يحضر معك؟
ولا جواب يحمله قلبي، ويستحضره عقلي، وينطقه لساني في الإبكار والعشي منذ وداعه إلا أنه مسافر. ولو رحل لجوار ربه لكان لي الحق بتكرار نفس الجواب في كل مرة أقابل صحبي، لكن الأمر طال ووصلت لسن العاشرة، وألحقت مسافر بعبارات تفسر غاية سفره:
- أبي مسافر للعمل، مغترب لجني المال.
المال حمله لشد رحاله، يبتغي حياة كريمة لأهله، يذوق فيها مرارة البعد ورمضاء الغربة، المال خطفه من بيننا، وخلت كل أيامنا من لمسته، أسير في الطرقات وحدي، ويمر بي أقْراني، ممسكين بأيدي آبائهم، وأبي موجود نراه عبر أجهزتنا ولا نستطيع لمسه، نقرأ حروفه عبر شاشاتنا ولا يقرأ يومنا بتفاصيله الدقيقة.
أحدث صاحبي بأمنيتي:
- ليتنا نتبادل الأدوار يومًا، وأحظى بلمسة حانية من أب، أشعر بها بمعنى الأبوة، وأبني منها ذكرى غير ما أحمل من صوت وصورة عبر الهاتف.
فرد علي:
على أقل تقدير تحظى بمال يغدق عليك وتحظى منه بعيشٍ وافر، ولا تحسب أنني أبني مع والدي ذكرى، إنه يجول طوال النهار، وينام ليلًا من شدة الإعياء، وما لقائي معه إلا ساعة الصباح التي ترانا فيها، وبقية اليوم غائب.
شتان بين غائب وغائب، فغياب نجهل موعد عودته ليس كغياب تعلم لحظة وصوله، غائبي حجز له العوز تذكرة، وحجز علينا العيش بدونه وهو على أرض البسيطة، أمعن في نكران صاحبي للحظاته القليلة التي يلقى به والده، ولا يعلم أنها أمنية غيره.
كم نشعر بوضاعة الأمنيات إذا تحققت بصورة غير ما كنا نتصورها؛ فالأُمنية أتت وتهلَّلت، وتشكلت بغير ما رغبت فتجهمت، فقد زارنا والدي كضيف عجول، انكفأ بعدها إلى الغربة ليُسكت صوت الفاقة، وتكررت هذه الزيارات العجولة بعدد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، لمت بعدها الحاجة التي أوصلتنا لهذا الحال، وجعلت أبي يزيد في سعيه وكل ما يقوله:
- سأعود لأعوض لحظات الغياب.
امتدت اللحظات عشرة أعوام أخرى، وفسخت من عمري عقدين، وما زال حديثي:
- والدي مغترب أكبر بدونه.
وحديثه:
- ابني شاب ويحتاج لعيشة كريمة.
ولا أعلم من أقاضي..
هل أقاضي الحياة وضيق العيش الذي يحاول والدي بغربته توسيعه علينا، أم أقاضي والدي الذي آثَر تأمين لقمتنا على العيش بيننا، أم أقاضي تفكيري المحصور على الطمع بأيام أعيشها مع أبي، استحضرها فيما بعد ذكريات، وأتناسى شقاءه المغدق علي برداء دافئ؟
أرتديه جالسًا بين أصدقائه، لأقف بين أحاديثهم، رغبة في مشاهدة ولمس واستنشاق شيء يشبه أبي، أريد سد غربته بصور حية تقارب فكره، أريد تعبئة فراغه بذكريات يحكيها أشخاص عاشوا نصف ما عاش.
كنت دائما ما أقلب سؤالا دار بيننا نحن الأبناء المقبلين على التمرّغ في وحل الكفاح:
- ماذا ستبني لأبنائك مستقبلًا أم ذكرى؟
وأجمعوا جوابهم على المستقبل، وتركوني وحدي مع بناء الذكرى.
ضحكوا حينها وقالوا:
- ماذا سيفعل أبناؤك بذكريات فائضة بالمعاناة، عليك تأمين طبقة كريمة لهم كما يفعل والدك، ثم سيحين موعد جلوسك معهم وعيش الأوقات معًا وبناء الذكريات.
وأخيرًا حان موعد جلوسي مع والدي، بعد سبعة عشر عامًا، تركني فيها ألهو على دراجتي، وعاد إليّ وأنا على مركبتي، استقبلتُ من المطار شخصًا غير الذي ودعته عينا طفل السبع سنوات، خارت قواه، وخفتت روحه المرحة، أما ملامحه الظاهرية فقد شهدتُها عبر مكالمات الهاتف، من خطوط تكونت على جانبي فمه، وأطراف عينيه، مرورًا بأول بياض لمس شعره.
جلسنا ليلة وصوله متجاورين كشخصين يعرفان ملامح بعضهما، و تربط بينهما صلة قرابة، لكنهما غرباء روح لا يعرفان ما يكدر صفو الآخر وما يشرح باله؟
ولا يوجد حديث يجمعنا؛ ذاكرته طافحة بوجوه قابلها في الغربة يعرفها أكثر من ابنه، وذاكرتي ممتلئة بصورٍ خالية من أدُمعِه وضحكاته.
الصمت ثالثنا.. أرغب في طرده بأسئلة تنتحب داخلي، تحثني رطوبة الجو لنفثِها، لكنها تعلم أنها ستتبخر فتختار التكثف في الداخل:
لِمَ لم نبني مستقبلًا وذكرى، لم علينا الاختيار؟ لماذا حين رست سفينتك، ستبحر سفينتي نحو الغربة، ولن تكون في ذكريات طفولتي وشبابي.
وكيف أني حينها لم أفهم مع أصدقائي وجوب تكرار الأمر، وكأنه طقس يجب القيام به؟
والأهم من هذا وذاك لماذا تحرمني الحياة الوقوف باعتدال، وتنزع مني أمنية بناء ذكرى؟