قصص قصيرة

لماذا نناجي الحذاء المسروق؟

بقلم: فاطمة


حجم الخط-+=

 

“كم من كرةٍ تنوي أن تُسرق لتفقه؟”

رددت زوجته وقد اتخذت من بوابة البيت مُتكأً لها؛ ذاك الذي حَسِبَهُ منزلًا في وقتٍ مضى، خطى يتهادى وقد سال من باطن قدميه الدم ومن ظاهر وجهه الراحة، ألقى مفاتيحه وقد تجددت فيه الروح لهذا اليوم كما هو شأنه بعد كل صلاةٍ مذ بدأ يتردد على مسجد ذاك الحي القاصي المُعدَم، تبِعته تستبقه الباب وقد عجّ بها كثيرٌ من اللوم بل وشيءٌ من القلق المبَرَّر.

كان قد بدأ يتعفّف عن كل ما يخص ضاحيتهم هذه، بإفراطٍ أضجر جيرانه وهو الذي وُلد وعاش ويشيب هنا، لم تفهم قط مصابَه وعلّة تقلُّب حاله، فهو في الجمعة المنصرمة ترك عمله وصلاة جامعهم العاجي الكبير دونما وداع.

أحضرتْ عدة الإسعافات وقرفصتْ بجواره تنظف جراحه نازعةً شظايا طريق العودة والعبث.

“لا لومَ على السارق بل على حاله.”

كان ذلك كل ما تفوّه به تعقيبًا على ما حلّ به، ثم أخذ يشيد بتلاوة الإمام وعذوبة الأذان وبساطة المصلين حتى قاطعته بهُزء: “إن كان عُسرُ الحال هو المَبعَثُ فما المانع من أن تكسو أقدامهم بما يشبهك؟ لعلهم يكفّون عن ذلك.”

لم تؤمن بما نطقته مقدار ذرة؛ فلا مبدأ قد يمنع ابن بيئةٍ كتلك من السلب في بيوت الله بحتمية، بروتينية، وكأن عقابًا ما سيحل به إذ هو ترك ما هو بعيدٌ عن مناله لصاحبه، دون أن يأخذ بثأرٍ ما، فإن كان ذلك حال السارق، فكل اللوم عليه.
وقد آمن بعلها بذلك أيضًا ذات حياة، لكن في هذا الآن وقد التمستْ هي منه قبولًا لكلماتها كما لو كانت فكرةً جليلة وليست تهكمًا مريرًا، فهي بذلك تعلن استحالة فهمه عليها.

استقام هو بعزمٍ إثر كلماتها قاصدًا أقرب متجر أحذيةٍ اعتاده، طوى كل معاني المنطق وابتاع كل مقاسٍ محتمل قد يشابه ما سُرِقَ منه، وقد كان حقًا يشي بمكانته. بجلدٍ فاخر ولونٍ زاهٍ يضاهي غيره؛ وكأنه يريد أن يُعرَف، ويُملَك، ويُرى.

تفحصه شاعرًا بأنه هو الآخر ينأى عنه ككل الأشياء، كشوارع ضاحيته التي كبِرَ هو وتكبَّرتْ هي ترَفُّعًا عنه، وعمله الذي باتَ متقدمًا مبهمًا، تحدُّب ظهره البائن وقامته المتراجعة، كالجامع الكبير وسقفه العالي وزخرفته البديعة، ومرتاديه الآخذين بالتناقص..

كل ذلك طفِقَ بهجرانه رويدًا، فاختار هو الرحيل نزوحًا؛ حتى الرجل الذي كان عليه محط الرؤى والسمع، تلاشى هو الآخر.

كل الأشياء كبُرَتْ عليه، أو ربما تقهقر هو أمامها، تحركتْ بثباتٍ عجولٍ بينما راقبها كمن يُدشِّنُ قاطرةً جديدة، كان ذلك كله قبل أن يصغي لصوت إمام الحي القديم إبان صلاة جمعةٍ مضت، لم يحس بنفسه وهو يُقتاد له مُنسابًا، ويُجالس مصلّيه وضّاحي المحيا، بسيطي الطلّة، يحدثهم عن شؤونه وما يعترم به صدره، هو الذي قلّ ما شكى لحَميم.

عرضوا المواساة وقدّموا السلوان، رغم تفاهة أزمته إذ قورِنتْ بشدة حالهم، أدرك هو رَغد عيشه الذي قد أذِنَ له بترفِ التَّمني.
دخل المسجد حاملًا مُشترياته الجديدة، يحاول تصورَ استِبشارهم بشيءٍ جميل، ينتظر أذان العصر وهو يرتبها على الدرج، يتفحص المصابيح التي ابتاعها منذ يومين، والبساط القديم الذي ينوي تبديله.

انتظمَ المصلون بجواره في الصف الأول، كتفًا بكتف، روحًا بروح، يتحرّونَ أحوال بعضهم مذ فراقهم اليسير بعد جمعة اليوم.
خرجوا بعد الصلاة لساحة المسجد حيث الأحذية الجديدة، أخذوا ما أخذوا وتلقى هو الإطراءات بإطراقٍ خجول قاصدًا خزانة الأحذية، نبّش عن حذائه، ثم نَقّب.. لا حذاء.

تَبَسَّمَ بُرهةً وهز رأسه متعجبًا، وزع نظره في المكان؛ لن يجد السارق أبدًا فلا طائِل من البحث، سيستمر الناس بالسلب، ويستمر هو بالعطاء؛ لأن لا شيء ملموسًا قد يُأخَذُ منه دون أن يبدله بغيره في طرفة عين، ولا آدميَ سينهب ما نهبهُ العمر بلا رجعة.
لن يُناجي ما انصرفَ عنه قط، بل سيُخمِدُ غِلًّا خَفَقَ وهاجَ بمن كان حظُه أقل وفرةً في الحياة، لعله بذلك يجدُ ما فُقِدَ من نفسه.

قد يتوقف السارق عن السرقة يومًا ما، وربما تتوقف قدماه عن النزيف في درب العودة تِباعًا لذلك، لذا -وحتى يحين الحين- سيحيى باقي الوقت يكفر عمّا مضى، لا يتحرى إجابات العلل.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى