قصص قصيرة

سكوت شهرزاد

بقلم: فاطمة


حجم الخط-+=

هذه قصة نجاة، وليس نجاحًا.

أدخل من نفس الباب الذي شهد أحداث مراهقتي
لا زال جانبه الأيمن يجرح كتفي بخشونة، خشونة تشابه ما بداخله بل وتحضرني له كل صباح، عهدت هذا كله.

أعود لبداية العقد الجديد، للأعلام الخفاقة في الساحة، لتمارينَ لا تُسمِنُ ولا تُغني من تعب، لأناشيدَ تصدحُ مذ ينفلقُ الصبح، لغِربانَ سودٍ لم أتطير لنعيقها الفَظّ، بل بدا لي حينها أعذبَ وأكثر سلوى من كل ما أُجابهُ في يومي.

أترَجّّلُ من الحافلة المدرسية وأودع صديقاتي من الصفوف الدنيا، ممن يشبهونني وأُشبههم في اللكنة والطبقة، بل وحتى في أطراف الحديث.
وأمّا بعدَ ذلك فأسكتُ عن الكلام
كل الكلام
المباح منه وغيره
لأُمارسَ دوري كإنسانٍ من الدرجة الثانية، أستقبل أول أعدائي، الباب الضيق الذي أُصارعُ لينتصر هو بتَشَفٍّ لا أساسَ له، ممزقًا كمي كغنيمة حرب، عداؤه لي نتاج أفكاري فحسب؛ فكيف لجمادٍ حقًا أن يحقد؟
ثم ثانيهم، وهنا تأملت ما سيجيء قبل أن ألقاهم فهم ثُلّة، هم حتمًا من سبّبَ ما أنا فيه من كدر، بازدراءٍ استحال لعداءٍ يتكرر كل ما تنفس الصبح.
تساءلتُ أي ترتيبٍ محتوم سيكون اليوم؟ النظرات ثم النعرات أم هو العكس؟

استهلّوا النهار بأسئلةٍ سمِجة عن كل ما لا يعنيهم، غير عابئين حقًا بإجابة

“لمَ يبدو وجهكِ وكأنكِ على وشك النوم أو شفيرِ الموت؟”

وكلاهما أضحكهم؛ موتي صغيرًا كان أم كبيرًا.

“رُبَّ كلمةٍ قالت لصاحبها دعني.”

كان ما همسته لنفسي، وحسبت أن أنفاسي ذاتها جهلتْ حديثي من فرطِ خفوته.

تقهقرتُ حين جذبتْ إحداهن خصلةً من شعري وجزّتها أخرى، عاينتُ الخصلات تتساقط نصبَ عينيّ وعلى طاولتي حيث أحتمي وأختلي بنفسي، لكن ما الجدوى من ذلك وقد فقدت جزءًا مني على أثر نجوى؟ ماذا كان ليحدث لو ارتفع صوتي موجةً واحدة؟ لا زالت خواطرُ كهذه تؤرقني بعد كل هذه الدهور.
إلى أي حد قد تتمادى القسوة، إنْ مُزجَتْ هي ببغضٍ موجّه لشخصٍ مهَمّش تزعمُ أنت دونيته؟

أكذبُ نفسي القول إن ادعيت أنْ لم أكترث لتبَيُّنِ هيئاتِهم ولو ليوم،
اكترثت، وكثيرًا، لكن عنقي المعقوفَ للأسفل قهرًا لم يُجبَلْ على التحري، ناهيك عن التحدي.

لطالما شعرت برغبةٍ ملحةٍ في البوح، للسماء، للشهب وللرياح كذلك.
وددت لو أشملُ العالم بما فيه، وددت لو أغمرهُ بحكاياتي، ولم يشبع تلك الرغبة حلم يقظةٍ ولا سهاد.
وددتُ لو يصير لي من اسمي نصيب؛ كشهرزاد الجميلة بأقاصيصها الساحرة، باتساع حيلتها وجسارتها التي كنت ولا زلت أغبطها عليها، فكنت على نقيضها -إن تحدثت- أنتزعُ الحروف من لساني وأستجديها؛ يسمونه بُطئًا، وادعوه قلة حيلة.

وعلى أية حال، فقد هُدِّدْتُ ذاك الصباح بأبشع عاقبة، قيلَ لي أن غدًا لناظره حتمًا لقريب، وأني سأودع سحنتي كما أعرفها حين أرتمي بين أحضان المدرسة الشائكة بعد ظهيرة اليوم التالي.

اخترتُ السكوت ردًا، قطعًا السكوت. تلقيت التعازي على روحي من زميلاتي مقدمًا، لم استشفَ إن كان على واقعٍ مرير سيُلمُ بي، أم مجرد هزلٍ لتبديد الوقت.

لم أذُقْ شهد ذلك اليوم الربيعي، ترجلت من الحافلة وأخفيتُ شعري المفقود بغيره خزيًا، ما أسهل امتهان كرامة الإنسان! كم هشة هي كي تُمتهنَ دونما ذنبٍ منا، بحركتين عضويتين ونوايا دميمة.

دوى في الدار صوتي صاخبًا كما العادة، أجيء بالكلام المباح وأسترُ ويلات اليوم، أروي أكاذيب بيضاء، وأطوي قوائم سوداء بتُّ على رأسها؛ لا قوة لعائلتي ولا حول، ولا نظام في مدرستي ولا رقيب، لا مفر من معضلتي سوى الوقت، كل ما أُطيقه هو أن أنتظر حتى يتراخى قدري أو ينقلب حالي؛ إذ لا أملك رخاءَ البدائل في آخر عام لي هنا.

وبينما كنت أتكئُ على المنضدة أفكر في ظهيرة الغد وما سيلم بي، حتى دقت نواقيس الخطر..
صدح أفراد البيت بأخبار تعليق الدراسة حتى إشعارٍ آخر، حاملين أنباء فيروسٍ ما أدركَ بقعتنا من الأرض وانتقصنا من حقه حتى بات واقعًا يهددنا، كل ما عنه مُلْغِز، ملغزٌ بالقدر الذي يدفعُ بمرامات البشر لإشعارٍ آخر أيضًا.
انقشعت الغمامة حينها من على ناصيتي، وأذكر جيدًا أن دمعة سلوانٍ تسللت دونما خجل، كم هو هش هذا الواقع الصعب كي يتلونَ بهذه العجلة!

فطنتُ إلى أنّ مصائب كونٍ عند شهرزاد فوائد، وأننا لسنا متباينين كما حسبت؛ فماطلتْ هي لتنقذ نفسها وأختها بالحكايات.
وماطلتُ أنا بالصمت حتى جاءني الفرج لينقذني وحزني الوحيد، الذي لم يعرف عائلةً سواي، فاستعصى عليّ هجرانه، الحزن حقًا يعرف أهله.

لا نهاية سعيدة تختم تلك الحقبة سوى التخرج والتخارج، لا انتصار عظيم على غُرمائي ولا انتقام يُثلج الصدر، لم أنبس بما يُفحِمُ أو يلجم الألسنة، لم تواتِني أية فرصة، ولم أُواتِها بدوري، وبدى ذلك الطريق الأسلم للشفاء.
أحمل الآن شهادةً في التربية، وتكليفًا بالتعيين إلى أجلٍ مسمى قد يندمل خلاله جرحي.
لا أدري كم من الوقت علي أن أمكث لأدرس ها هنا تشافيًا من هذا المكان، ولأتم أُقصوصتي الخاصة، وكم سيسرق هو من وقتي لُيشفى من قروحٍ تسبقني وأجهلها، ليصير لينًا رقيق القلب.

أنا هنا الآن لأحكي قصصًا ما، لأصلح الباب الجلف، كي لا تسكُتَ شهرزادٍ أخرى قهرًا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى