مقالات

عن العزلة والكتابة

البندري مشرف


حجم الخط-+=

 

 

العزلة هي أعمق تجربة إنسانية يمكن أن تعاش؛ لما تنطوي عليه من جسارة في مواجهة الذات والإنفراد بها ومناجاتها.

يكتفي المنعزل بنفسه عن غيره وبمصادقة نجواه عن محاباة الآخرين وهكذا يصبح مكشوف العيوب والمزايا أمامها، فتارةً يتصارع مع كيانه وتارةً يضمه بعد التصالح معه ليستمر بثبات في تقبل تجربته هذه بكل ما تحمله من صعوبات وما ستمنحه في المقابل من دروس؛ لذا حين يأتي الحديث عن العزلة والكتابة يُفهم أن المقصد ليس الوقت المستقطع من اليوم  والانعزال للكتابة فيه؛ بل عن العزلة التامة عن العالم الخارجي وكل ما يتعلق به من نمط الحياة الاجتماعية لغاية الكتابة فقط.

تختلف الأسباب من كاتب لآخر في خيارهم هذا إلا أن جميعهم يتفقون على أن ما تمنحه العزلة من فرصة للانغماس في الملل، من شأنه تحفيز إنتاجهم الأدبي.

 

العزلة الاختيارية 

 

تحدث العزلة الاختيارية بقرارٍ من الكاتب وحده فهو يختار ظروفها المكانية والزمانية فينعكف فيها أو يتخلى عنها متى شعر بعدم حاجته إليها، وقد تكون العزلة الاختيارية نتيجة لإيمان الكاتب بجمالها وبشاعة العالم الخارجي، فهو يهرب من المجتمع للشيء الذي يجد به طمأنينته وسلامه، ويصنع في عزلته عالمه المثالي الذي لا ينغص رغده شيء ولا يتحكم بقوانينه أحد، ليعيش الكاتب في فردوسه المُختلق عوالمه القصصية وحكاياته الروائية بعيدًا عن كل ما يحدث خارج دائرة عزلته.

قد تعتبر هذه رفاهية لا يحظى بها الكتّاب عادةً إلا المحظوظين منهم، فليست كل عزلة قد يتعرض لها الكاتب اختيارية بل الكثير منها لُحّف بالإجبار الذي يجعله يرى نفسه محاطًا بها ولا سبيل له سوى تعزية نفسه بسلوى الكتابة.

 

العزلة الإجبارية

 

أطلقت هيئة الأدب والنشر والترجمة التابعة لوزارة الثقافة في المملكة العربية السعودية مبادرة أدب العزلة خلال فترة عزل كورونا، أي عام عشرون عشرون. وقد شارك العديد من الكتّاب في المبادرة بنصوصهم الأدبية من شعر وقصص قصيرة ويوميات تناقش موضوع العزلة وتتعلق بخيوطه، وهذه المبادرة تعتبر رائعة لكونها وضعت الأدب بموضع المشارك في التجربة الإنسانية ومتفاعلًا مع منعطفاتها، إلا أن نفوس الكتّاب تفاوتت في قبول عزلة كورونا ولا يمكن التأكيد على أن جميعهم قد استفادوا منها لأنها كانت إجبارية عليهم وليست اختيارية.

وببحث بسيط عن هذا الموضوع سيجد الباحث الكثير من المقالات التي يناقش الكتّاب فيها تجربتهم واختلاف تأثيرها على إنتاجهم الأدبي، لكن العزلة الإجبارية لم تبدأ منذ بدأت إجراءات الحجر المنزلي في كل مكان في العالم؛ بل حدثت وتحدث دائمًا وتتكرر دون توقف لمختلف الأسباب وعلى مر العصور ومن الممكن أن تحصل لجميع الكتّاب مع فارق أنها تختصهم لوحدهم بعكس ما حدث في الحجر الذي شمل جميع الناس معًا في عزلة واحدة؛ فهي قد تنتج عن عارض صحي يعزل صاحبه عن الناس ويلزمه بعدم الخروج من المنزل لوقت طويل، أو سجن يزج به ليغيب عن وجه العالم سنوات مديدة، أو اغتراب عن موطنه قسرًا، وهكذا تختلف ظروف وصروف الدهر فمنها ما يمكّن الكاتب من اختيار العزلة ومنها ما يكبّله بها إجبارًا، ويبقى بالتأكيد رأي الكاتب هو الذي يحدد ما إذا كانت عزلته باختلاف نوعها مثمرة أدبيًا أو لا. 

في النهاية لا تتفرد الكتابة في حاجتها للعزلة بل تتواجد كذلك في الفنون التي تنضج وتتبلور كلما توحدت بذات مبدعها، كحال الكثير من الفنانين أمثال فريدا كاهلو وغيرها، الذين وجدوا عطاء أكبر لفنهم في العزلة لم يجدوه في غيرها، لأنها أعمق ما يصل به المبدع من إنتاجية، فهي إن تواجدت حول الكتابة ستضفي عليها بريقًا وتزيدها بهاءً وسحرًا وتغدق الصفاء على كل كلمة تُكتب بصبغة من الإبداع، وتتجلى حين يرى الرائي مدى عبقرية تلك الأعمال التي ولدت من رحم العزلة ويعرف بالغ كرمها عليها. 

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
1886