هنا أهم المواضيع التي استأثرت فكري خلال قراءتي للرواية الأخاذة “في قبوي”.
في قبوي
في قبوي رواية الإنسان اليائس، الحقود، الممقوت الذي وصف ذاته بهذه الطريقة والتي وصفها لنا الكاتب الروسي دوستويفسكي بطريقة أشبه بالعمق. رواية استثنائية الكتابة فليس لها أحداث ولا قصة تجذب القارئ ليتابع القراءة من أجلها، بل هي رواية لشخصية سلبية الفِكر، محتقرة لذاتها أولًا ثم للآخرين. ومن خلال قراءتي لهذه الرواية المليئة بالسوداوية، أرى ذاتي بين السطور هنا ولكن ليس في احتقاري لها بل بفكر دوستويفسكي الذي أرسله من خلال فِكره إلى فِكر الروائي. وكلما تعتر حالي، أرى حالي بين أسطر دوستويفسكي وكأنها مرآة الحقيقة لواقعي.
تساؤل الروائي عن شروعه في الكتابة
كان التساؤل هذا يشبه الروائي أولًا ثم يشبهني. لماذا شرعنا في الكتابة؟ بالرغم من أننا ليس لدينا قراء يهرعون قراءة ما نكتب ولكن حتمًا هناك سبب أهم؛ لذا صَور لنا دوستويفسكي عملية الكتابة بأنها أشبه بالموسيقى التي تتشبث في عقلك وتلحنها على مسامعك، وفي الوقت ذاته تريد نسيانها، لكنك من شدة تشبثها لم تكن قادرًا. فحين يهرع عقلي بفكرة الكتابة وتَصور الكلمات والمفردات المناسبة تهرع ذاكرتي بالتشبث بها ومن هنا يجب عليَّ أنا الكاتبة التجاوب مع عقلي والكتابة عما يجول بخاطري وسكب أفكاري ليتحرر عقلي وينجو منها. “إنني قد أتحرَّر منها إذا أنا كتبتها”.
الصداقة والقراءة
رُبما الروائي التمس حسًا لي بين السطور، فهو لا يمكث طويلًا في علاقاته وبالأخص الصداقة. وما كان ذلك إلا من نقص خبرته. كان كل شيء يريد الانتهاء حتى في إلقاء التحية، ولكن بالمقابل كان في قبوه، كان يلزم قبوه ويمسك كتابه ويقرأ لأطول فترة ممكنة. وفي حقيقة الأمر، جميعنا لدينا قبونا الخاص الذي يشبهنا حتى بأقصى قدر من التفاصيل. لم أتعرف على قبوي إلا منذ أشهر وأشعر أن دوستويفسكي تفهمني هنا، فكنت أعتكف على القراءة لأطول وقت ممكن ولا أتوق الخروج من فراشي، حتى حين يخالجني الشجن كنت أقرأ؛ فكانت القراءة خير صديق.
مازوخية الروائي
خَيم الحزن على قلبي حين واجه بطل الرواية أشد أنواع النُبذ. في حقيقة الأمر، طيلة فترة قراءتي للرواية لم أشفق على حالهِ الزاخر بالأسى والغضب العارم؛ كان يمشي نحو ذلك وبإرادته وكان يتلذذ في إزعاج نفسه ولكن اليوم حين انتهيت من قراءة الفصل الرابع، أشفقت عليه كثيرًا. تلقى بطل روايتي أشد أنواع النبذ من قِبل أصدقائه وهذا أسوأ ما يواجه ويشعر به المرء. أن تكون منسيًا بلا أهمية، كالعدد الزائد غير المرغوب به، أن تكون حاضرا قلبًا وجسدًا ولكنك غير مرئي بسبب نظرة الآخرين لك..فماذا لو كانوا أصدقاءك يُهان فيعتذر، يُعذب فيعتذر، يُجرح فيعتذر. عندما رأيت حاله وكيف أصبح يعتذر من الجميع بالرغم من أنهُ ليس مخطئًا، خُيل لي مصطلح المازوخية. يُعرف الشخص المازوخي بأنه قاس على ذاته ومُحب لتعذيبها وإذلالها وهذه حالة من حالات الاضطراب النفسي؛ والروائي مُحب لإهانة كرامته وإذلالها هنا.
“إنني أبالغ دائمًا، وهذه علَّتي وبلواي”.
ذكر الروائي مدى مبالغته الدائمة وصنفها بأنها علته التي بُلي بها. فرأيت ذاتي هنا، أنا والروائي نملك نقطة مشتركة ألا وهي المبالغة على حد الدوام. أُحب أن أبالغ في مشاعري، محبتي، خوفي، طمأنينتي حتى يتسنى لي إيصال عواطفي في أقرب صورة يُسهل فهمها ورؤيتها. فكلما درست أو كتبت كنت أشعر أنني أبالغ وأغلو. ومن حِين إلى آخر تأتي النتائج وخيمة وعكسية ويتضح أنها ليست إلا عِلة وبلوة. كنت أواجه صعوبة في تركها، أشعر أنني مكبلة اليدين إذا لم أكتب بصيغة المبالغة وكأنها الطريقة الأمثل والأسلوب النثري الأسهل بالنسبةِ إلي.
أخيرًا
في قبوي رواية استحوذت فكري بطريقة مبهرة وبديعة وملأت جوانبي أنا كقارئة و توسعت مداركي بها. أجابت تساؤلاتي من الناحية الفلسفية؛ حولتني من قارئة غير منتظمة إلى قارئة منتظمة. أثارت الرواية لغتي بطريقة فلسفية وكان الفضل يعود إلى المترجم الرائع د. سامي الدروبي. كانت لغتهُ مثرية وسرد لنا الرواية بطريقة تشويقية بالرغم من أن مسار الرواية ليس قصصيًا. وبالرغم من عدم محبتي لكتب الفلسفة إلا أن رواية في قبوي أستأثرتني وبدلت رأيي من حال إلى آخر. كما أنهى دوستويفسكي روايته أريد أن أنهي مقالتي بقوله الأخير: “في وسعنا هنا أن نختم الآن”.
تدقيق: حسناء.