قصص قصيرة

عِراك

بقلم: السارة


حجم الخط-+=

تغلغل شيءٌ لأيامه فطِفق يبحث عمّن يوقفه، أطل برأسه الحلِيق من نافذة غُرفته يتطلع للحياة خارج عالمه، لم يتأمل شيئًا بعينه أو يركز في بقعة محددة من الأرض أو السماء، بل مرّر بصره بفُتُور على الشارع المشتعل بفعل جمْرة الصيف، وانتقل بنفس الفُتُور للمنازل المغلقة نوافذها على أصحابها المحتمين بجدرانها عن سُلطة الشمس. إطْراق عام؛ عمّ الإِنس والجماد وربما الجانّ، لا شيء مُثير؛ الحياة في الخارج كما هي في دارِه كما بيْن جوانِحه، فراغ يسكن مِزاجه ويومه، بلادة يغوص داخل أعماقها، ووهن يقيده عن مُمارسة أي نشاط مُفرِط، يبدو مثل مُسْتنقع راكِد وما حوله كاسد.

 

أغلق النافذة وعاد لوضعه يتصفح هاتفه بعد فشله في إيجاد مشهدٍ يفوق حرارة أيام العُطلة لهيبًا، ملّ مشاهدة الصور الزائفة خلف شاشة الهاتف والتلفاز، عاد لسريره يتقلب عليه يمنة ويسرة، نهض وتأفّف، خطى خطوات ثقيلة داخل دارِه بذهن خامِل وجفْنين ذابلين، تقاعس عن محاولة القيام بجهد يُحيِي اليوم، لام نفسه على تفضيله النوم وعدوله عن أخذ فصل صيفي يخفف من تجمهر المواد في جدوله الجامعي، تراجع عن اللّوم، وأخذ يُذكر نفسه بمروره في بعض أيام الدِراسة بنفس الوضع؛ لا يستطعم عُذوبة، ولا يشعر بحماسة، وتمر عليه الأيام مُتطابقة، كأنه فزّاعة داخل الحقل ثابتة في مكانها، تشهد فصول السنة الأربعة بنفس النظرة الذاوِية.

اسْتبان من تاريخ اليوم إلى اِنقِضاء ثلث العُطْلة وهو يكرر نفس الطقوس، كشخص وُضِع داخل صندوق ينتظر قدوم الأحداث إليه ليستقبلها بمعِيّة الدقائق الثقيلة، استرجع الأحداث ووجد أنه في نفس هذه الساعة من ظهيرة الأمس والذي قبله وقبله يقوم بما يقوم به الآن وهو إعداد الشاي، خرجت من ذهنه قبل فمه كلمة:

ما هذا؟ مُتعجبة، ومُغْتاظة، ومُتذمرة، وفوقها مُعترضة على اللِجام الموضوع على حياته المتحكم بالقيادة بضجر يمزق فكره الخاوي وجسده الذابل.

أعاد التساؤل مرة أخرى وأضاف كلمة بجوارها:

-ما هذه الحياة؟ لا أحد يجيبه، فليس أمامه سوى كوب الشاي الخادر المتعجب من اِسْتِفاقته المتأخرة بعد خدرٍ اعتراه. راودته رغبةٌ ملِحة في البحث عن طريقة تكسر رتابة اليوم، أو إيجاد أداة تقشع الضباب الكثيف المتكون داخله وحوله، أو حدوث سحرٍ يبهره، المهم الخروج من عبثية اليوم، استند على المقعد وترك الأفكار تجُود عليه بخيرها، توصل بمساعدة رشفات الشاي لبقعة سيبحث فيها،

خطرت في باله حين استحضر وجه أحدهم يقول:

-كل ما يخطر على البال وغير المعقول موجود في سوق الدِلالة.

انطلق يمينًا عند دخوله سوق الدِلالة ثم شمالًا ثم عاد للخلف مارًا بنقطة البداية، أخذ يتخبط في اتجاهات مختلفة لا يبتغي وجهة محددة، فما زال واقِعٌ تحت تأثير فكرة مجنونة تحثُه للبحث عن ما يقتل الملل، تلفت بذُهول قادهُ ليقف بين أجسادٍ متلاصقة تطل بقامتها على بسْطة تضُم أغراضًا يعرفها وأخرى يجهلها، تمعن في الأغراض والأوجه حوله، ثم أكمل سيره بين الحشود والبضائع المتكدّسة والأصوات المتشكلة كحبلٍ يسحبه ثم يطلقه عند نقطة محددة تُكرر “كمْ” كأغنية شعْبِية خرجت من فضاء السوق لتعود إلى باطنه، تنتشر في الأنحاء رائحة الهواء الحار الجاف والصدأ، تلتقط حواسه المشاهد غير المألوفة لديها وتتابع قدميه السير على غير هدى، لمح بسْطة خالية من المتسوقين وبائعها غير موجود، دنا منها يعاين حجرًا أسود منحوت، رنّ خلفه صوت جهُوري يستفهم عمّا يعمله، وما هم بالإجابة حتى وجد نفسه في قبضة البائع يتدلّى.

 

انتبه لاِنفضاض الجمع بعدما فضّ العِراك شخص لفع البْياض لِحْيتِه، وعين البائع الفظّ ما زالت تحدجه بنظرة ارتِياب، تحسس رأسه الحليق الذي نزل عليه الحجر الأسود وأحدث فلعة، ومع إحساسه بعدم اقتصاصه لنفسه من اتهام البائع له وقوله: -وجهك وجه نشال.

إلا أنه أحس بجرعة حماس تسري في جسده من بداية شدِهما تلابيب بعضهما وتقاذف الشتائم بينهما، شعور بالنصر لإيجاده حدث يشعل يومه. استدار بجسده تاركًا الأصوات تتعالى خلفه، وداخله يتعالى صوت التصفيق وهِتاف يستحثه على العِراك مع الملل كلما أمسك بيومه.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى