قصص قصيرة

عبثية الطرق

بقلم: سعيد السعدي


حجم الخط-+=

يُقال أن طُرق الفوضى تتلاقى عندما تبدأ الأقدار بالعبث، بين ممرات التائهين ضد رغبات الحياة وفي وحدة الانتظار شاهدتُ عجائب أقدار البشر، الخسارة والفقد، السعادة والفرح، الترقب والانتظار، الحسرة والاستعجال، هذه مشاعر من يسلك هذا الطريق الذي تتفرع طرقه ومسالكه.

أبواب في كل سقف وطابق، وفي الأرضية، في الشمال والجنوب وفي الشرق والغرب، يتسابق اللون الأبيض في كل مكان من هذه الطرق ولا يُفرقها سوى ألوان الأبواب البنية المائلة للحمرة وكأنها تمتص تيه سالكي المكان، طريق غرائبي لا يستطيع إيجاده سِوى من هم على أعتاب الخسارة والتائهين في أحضان الحياة وكأن هذا التيه هو مفتاح أبواب هذا الطريق.

بعد دقائق من جلوسي على كرسي الانتظار معوج السيقان الأبيض، دخل رجل فجأة وبكل عُجالة من باب القادمين يمينا، يرتدي ثوب السفر المائل للسواد من بعد زرقة، ينظر لعقارب ساعته الرمادية في كل خطوة يخطوها وكأن الوقت سيسرق نصيبه من الذهاب بعد أن جعله الوقت ضحية تأخير، ويجر بيده اليُمنى حقيبةً تحمل خفايا سفر.
سألته وكلي عجب بأمره:
– لماذا تتعجل ولك نصيب من المستقبل.
– المستقبل غامض، والوقت لا عودة له بعد انسحاب الفرصة… أرجو المعذرة عليّ الذهاب بسرعة.

خرج تاركا غبار الثواني من ورائه وتساءلت عن انعكاس الأحوال بيننا. كيف للأقدار أن تُلقي العُجالة مع الصبر لتجمعهما في منعطفات فوضى الحياة. هل الوقت حاكم لومضات المستقبل أم أننا نستخف به في لحظة خيانته لنا. ثم لا ترمش راحة لجفني حتى أتفاجأ بعدها بدخول رجل من بوابة السقف ممسكًا هاتفه القديم بوضعية الاتصال يتوسل لمديره بأنه لم يتأخر ولكن زِحام الطريق ومشاكله الماثلة كل يوم هي ما جعلته ذلك، كان مكسيًا باللون الأزرق المائل للسواد وكأن هذا اللون هو لون العُجالة. لم أحادثه البتة خشية وقوع غضب من بعد غضب، فاللوم الأكبر لا يقع إلا بعد ملومة كبرى تكدست مع فوضى الوقت، وخرج جاعلا الخوف تابعا له ليستطرد معه هلوسات قرارات المستقبل. وما إن انتظرت لبرهة حتى دخل طاقم طبي من بوابة على أرضية الطريق يرتدون البياض وكمامات الوجه يجرون سريرا عليه شخص شارف الموت على نتق خيط حياته لينادوا المزدحمين على الطريق لإفساح المجال للمرور متجهين لبوابة الجراحة. كانت نصف عيني المريض ترى العالم بكل غفوة. فسألت التابع القادم من الخلف المكلف برؤية إن كان لهم حاجة في الطريق:
– ما خطب إصابته؟
– أصيب بسكتة قلبية جراء خيانة حلم.
– حلم؟ كيف للحلم أن يخون؟
– بعد تحقيق طموحه وأحلامه لم يفرح أحد له، لم تبدِ الوحدة له سوى سوادًا حالكا بطعم نجاح خاسر، فتوالت الخسائر من بعدها حتى ما عاد قلبه يستطيع تحمل كاهلها فكُسِر.

أُسدِل الباب بعدها وأغلق في وجهي وتراءى لي كيف أن لغرابة نجاح الحلم قصم باطن القلب وإردائه طريحا جريح وحدته. فرأيت أن هذا المكان تسوده آفات الخسارة لا غير، وعجبت بعدها كيف أجاب القدر فورا بخروج طفل يحمل يديه في عينه من بوابة الخروج عائدا ببكاء نازح من عينه ودموعه تسيح فراقا. لم أدرِ كيف أواسيه سوى أنني قررت النهوض من الكرسي واحتضانه عنوة علّ ذلك يشفي جراحات الفقد والأسى. فصاح على صدري وهو يردد:
– هل يعود الراحلون؟
فأجبته على مهل وبكل شفقة.
– لا لن يعود، ولكن الاعتياد على الرحيل هو ثاني الحلول من بعد الصبر وعليك أن تحزن الآن كي تشفي ألم الرحيل.
– لكنني لا أريد الاعتياد أريد أن أرحل برفقتهم.
– لا تقلق.. ستكبر ويحين دورك.

لم يستطرد بالحديث بعدها حتى أودعه البكاء نائما بعد جفاف دموع ولم أعرف كيف أتركه في مثل هذا المكان الكئيب. لا أدري كيف يعتاد علينا الزمن فتتراءى فوضى من الأقدار لترسم لنا بعدها مسارًا كما نريد حتى يفاجئنا القدر بعبث آخر… يبدو أن وقتي حان للرحيل كحال جميع السائرين هنا وعليّ الاستعداد لمقابلة وظيفة المستقبل لعلي أُنادى بخبر قبول.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى