مترجممقالات

تحكي إليف شفق عن المعرفة والمرأة في حياتها

ترجمة بشرى الجبري 


حجم الخط-+=

بقلم إليف شفق

 

حفيدةٌ تتذكر…

 

في إحدى ذكرياتي المبكرة كانت جدتي تذوب قطعًا من الرصاص في إناء صغير، ثم تصب السائل الرمادي في وعاء من الماء المُملح. صوت أزيز… ورائحة قوية…، مُثارة وخائفة، حبست أنفاسي منتظرة دون أن أعرف ما الذي يجري. يتخذ الرصاص شكلًا مختلفًا في كل مرة كانت تقوم بذلك، ستدرس جدتي شكلها في صمت وتركيز عميق. 

 

إحدى ذكرياتي المبكرة هي أن الجدة كانت تذوب قطعًا من الرصاص في إناء صغير ثم تصب السائل الرمادي الرماد في وعاء من الماء المُملح. صوت أزيز. رائحة قوية. حبست أنفاسي ، منتظرة دون أن أعرف ماذا ، غارقة في الإثارة والخوف.

 

  • جدتي!! … هممم!
  • ماذا ترين هناك؟ سألتها. أخبريني ما الذي يحدث؟ 
  • اهدئي، إنك تخيفينه.

أُخيف ماذا بالضبط؟ هل الماء، المعدن المنصهر، أم مصير شخص ما. هل هو جني غير مرئي يقفز ويرقص بالغرفة من حولنا؟ لم تعرني جدتي اهتمامًا، وعندما رأت وجهي الحائر دعتني بعد ذلك بقليل لأجلس في حضنها، أستنشق رائحة ماء الزهر والقرفة المطحونة، والسمسم المحمص المنبعث من ملابسها. 

حدقت في الوعاء بحذر، وتمامًا كما رأيتها تفعل ذلك مائة مرة حاولت أن أمعن النظر في تلك الألغاز التي تتصاعد وتحوم في المكان لكني لم أفهم شيئًا. 

بدأت بالاتحاق بالمدرسة في ذلك الخريف، وعلى الرغم من أني كنت أُجيد القراءة بالفعل إلا إنه سرعان ما اتضح أن الكتابة ستشكل تحديًا كبيرًا بالنسبة لي. لكن هنالك مشكلة؛ أنا عسراء. أخبرتني المعلمة أمام جميع الأطفال أنني إذا أردت الحصول على شريط أحمر مخملي مثل الأخرين يجب عليّ أن أرسل يدي اليسرى إلى المنفى. “المنفى” لم يسبق لي أن سمعت هذه الكلمة، أين يقع هذا المكان؟ وكيف يمكنني الذهاب إليه؟ والأهم من ذلك كيف يمكنني أن أرسل جزء مني إلى المنفى والاحتفاظ بالجزء المتبقي هنا؟ 

 

لم أكن أعرف أنه من الممكن أن نتمزق ونتشظى، أن ننقسم هكذا. أن تصبح دخيلًا وتشعر بأنك غريب في وطنك الأم، لم يكن كلًا من ذلك معروفًا بالنسبة لي في ذلك الوقت، إرسال يدي اليسرى إلى المنفى يعني إبقائها تحت الطاولة طوال اليوم والاعتماد على اليد اليمنى في كل شيء، كالكتابة وحمل الكتاب ورفع يدي. أوضحت لي المعلمة أيضًا بأن اليد اليسرى مخصصة منذ الأزل للأشياء المكروهة؛ أي أن اليد اليسرى للخطأ والخطيئة. وبناء على ذلك بدأت بإستخدام يدي اليمنى، وانتهى بي المطاف بِكره خطي وهو شعور لا يزال مستمرًا. لم أرغب بحمل قلم الرصاص وكلما اضطررت لذلك كنت أضغط عليه بشدة بين أصابعي، فيخيل لي أنه سينقسم إلى نصفين، يا له من شعور مزعج أن يكون لديك الكثير من الأمور لقولها وليس لديك القدرة لكتابتها. والآن عندما أشرت بيدي إلى الوعاء تأكدت من القيام بذلك باليد اليمنى.

 

  • جدتي، ماذا تعني تلك الثقوب؟ 
  • تلك؟ -توقفت برهة- ولمعت عيناها الخضراوتين وقالت: هذه الثقوب تعني أنك إذا لم تأكلي خضرواتك ولم تتناولي البامية المطهوة فلا توجد وسيلة لجعلك تكبرين. 

 

كنتُ وجدتي قريبتين من بعضنا البعض.

ولدتُ في سترسبورغ في فرنسا رغم أن كلا والديّ تركيان، كان والدي أكاديمي متفاني أكمل الدكتوراه في إحدى الجامعات الفرنسية، أما والدتي فقد تركت الجامعة ولحقته معتقدة أن الحب وحده سيكون كافيًا. لكن هذا الزواج لم يدم طويلًا فبعد بضع سنوات كنت أنا وأمي نستقل قطارًا نحو تركيا. 

 

” مازلت أتذكر جلوسي بجوار النافذة أنظر إلى الخارج، إلى العالم المضطرب حيث كانت والدتي تدرس وتعمل وتكافح لتجد طريقها وحريتها”

 

ذات صباح وصلنا إلى منزل جدتي في أنقرة، أدركت في وقت لاحق أنه في حي محافظ للغاية، من الطبقة المتوسطة المسلمة. بعد أن ارتكبت والدتي خطأ فادحًا بالزواج في سن التاسعة عشرة أصبحت الآن شابة مطلقة ، ولم تكن حاصلة على دبلوم ولا مال ولا مهنة. على الفور بدأ جيراننا المتطفلين بالبحث عن زوج مناسب لها، لكن جدتي تدخلت وقالت: أعتقد أنه من الأفضل أن تعود ابنتي إلى الجامعة وأن تحصل على دبلوم ومهنة وأن يكون لها خيارها. وعندما ذكرها نفس الجيران بأن أمي لديها طفلة صغيرة لتعتني بها وبالتالي لا يمكنها أن تصبح طالبة، قالت جدتي متجاهلة ما يقولون: أستطيع أن أربي حفيدتي وابنتي حرة في أن تفعل ما تريد إنها لا تزال شابة ويمكنها بدء حياتها من جديد. وهكذا عادت أمي إلى الجامعة لإكمال دراستها وبناء مستقبلها المهني. 

 

أما أنا فقد نشأت على يد جدتي والتي كنت أناديها ( ماما) بينما أطلق على والدتي عادة ( أختي الكبيرة) كان المنطق وراء هذا التصنيف مربكًا لأي شخص آخر لكنه كان واضحًا إلى حدٍ كبير بالنسبة لي.

في كل صباح بعد الإفطار كانت جدتي تعد لنفسها فنجانًا من القهوة المرة وكأسًا من الحليب بالعسل لي، وعندما تنتهي من قهوتها تقلب الفنجان رأسًا على عقب وتنتظره حتى يبرد ثم تنظر إلى داخله، لم تكن تقرأ الأخبار ولا الصحف بل تقرأ فنجانها بدلًا من ذلك. وفي منتصف النهار كان الجيران وبعض الغرباء يطرقون بابنا لطلب المساعدة ويُقدم الشاي للجميع ما يعني رنين مستمر للملاعق الفضية على الزجاج والذي يتردد صداه في كل أرجاء المنزل. ومن بين زوار جدتي الدائمين أولئك المصابون بأمراض جلدية واضطرابات مزاجية والتعب المزمن أو الاكتئاب. فقد كانت جدتي معالجة متخصصة في مجالات معينة، هناك بعض الأشياء التي يمكنها القيام بها. وإذا حاول شخص ما الدفع أو عرض هدية فإنها ترفض بحزم، وعندما سألتها عن ذلك أجابت: إننا نحصل على المعرفة حتى نتمكن من نقلها إلى الآخرين فكيف نطلب المال مقابل شيء لا نملكه في المقام الأول. 

إن المعرفة ليست ملكًا لأحد.

 

كان ذلك في أواخر السبعينات؛ في المنزل هناك أشواك الورد والحمص المجفف المطحون وخرزة العين الشريرة ومسابح العنبر… أما خارج المنزل، كان يعج بالضربات والأعيرة النارية والتفجيرات الإنتحارية والمظاهرات، مات الناس، واختفوا. كان اليمين المتطرف يقاتل اليسار المتطرف والقوميون الأكراد يقاتلون القوميون الأتراك، حتى أن مؤيدي نفس الإيديولوجية يتقاتلون فيما بينهم.  

 

أتذكر أنني جلست بجوار النافذة أنظر إلى الخارج، إلى العالم المضطرب حيث كانت والدتي تدرس وتعمل وتكافح لتجد طريقها وحريتها، بقيت قلقة على الدوام بشأن تلك القنابل والصراعات وكل ذلك العنف. لكن في هذه الأثناء كان جزء مني يستمع إلى الهمهمة داخل المنزل، صوت جدتي الهادئ في نفس العالم، هذا العالم؟ عالم السياسة والسريالية عالم العامة والخصوصية، مقاومة أمي وقبول جدتي…. 

 

صباحات الأحد هي الأيام الوحيدة التي أراهم يقضون وقت فراغهم معًا، يضعون الصواني الكبيرة والمستديرة على الطاولة ويبدأون في صنع الدولمة، مزيج من الأرز واللحوم والأعشاب البرية يقومون بحشوها داخل الفلفل الأخضر، لا يتحدثون كثيرًا، حركاتهم بارعة وتدل على الممارسة أما صمتهم فكان هادئًا ومتناغمًا، أشبه باعتراف متبادل باختلاف شخصياتهم ، نوع من الأتفاق الإنثوي .

 أفرك أذني في محاولة للإنصات لما لم يقال ، وأفتح عيني لألقط ماهو غير مرئي ، مهووسةً لفك ما كان بالنسبة لي لغزًا. 

فأنا على يقين إن هاتان المرأتان مليئتان بالأسرار، ما الذي كانوا يخفونه عني بالضبط؟

 

 عندما تجهز الدولمة كانت جدتي تقول لي بشكل هزلي: توقفي عن مشاهدتنا كما لو كنا تلفاز، إن كل ما ترينه فينا موجود فيكِ ويومًا ما ستعرفين ذلك، أما الآن تعالي وكلي يا عزيزتي تعالي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى