رن الجرس معلنًا انتهاء الحصة الثانية وبداية الحصة الثالثة، فدخلت علينا أبلة مها، بشعرها الأسود الطويل وبشرتها الحنطية الرملية المميزة تحمل بين يديها كتاب الأدب. بدأت تخط على السبورة كتبت كلمة واحدة فقط، رثاء.
قرأت لنا الأبيات، بكل مشاعرها، بكل روحها، توقفت في سطر ما وقالت مين اللي تشرح لي التشبيه يا بنات؟ بين صفوف البنات النائمات، والأخريات المشغولات بالرسم والشخابيط وقعت عينيها بعيني، وقالت:” يلا هيا”
ترددت، لأنني كنت مشدوهة البال، فمكاني بجوار نافذة تطل على ممرات المدرسة، وعيني كانت شديدة الانجذاب للخارج، لا أحد هناك سوى أشعة الشمس الحنونة – تلك التي تبعث الدفء والهدوء فالحصة الثالثة دائمًا مريحة- صحصحت من سرحاني
وقلت: “أتوقع قصده أن الموت تعمّد يختار ولده”
أظنها عرفت حبي للأدب، فحصصنا السابقة كانت دائمًا تسألني عن كلمة ما أو فكرة ما وكنت أجاوب بحدسي وحتى وإن أخطأت، ردت بنبرة سعيدة، وعينين فِرحة: أحسنتِ، الشاعر دايمًا يشرح أفكاره ومشاعره بالتشبيهات!
ابن الرومي في رثاء ابنه محمد:
اليوم، وبعد ما يقارب تسع سنوات على هذه الأيام، قرأت نفس القصيدة فذهلت. كيف للغة أن تحمل كل هذه الجراح الثقيلة، والهمّ الذي جاء قبل آوانه، كيف للكلمات أن تكشف الستار عن قلب مكلوم، وكيف للقلم أن يخط لواعج الأسى لقلبٍ محروق، فيفتح لنا نيران القلب المشتعلة ألمًا لوفاة صغير ابن الرومي وأوسط أبناءه وجُمّارة فؤاده محمد.
بكاؤكُما يشْفي وإن كان لا يُجْدي – فجُودا فقد أوْدَى نَظيركُمُا عندي
يفتتح الرومي قصيدته بالتوسل لعينيه، فيطلبها أن تبكي عل مائها يخفف لهيب الأسى، يقول لعينيه جودي بالدمع فمحمد الذي كان بمكانكما عندي، رحل دون عودة.
تَوَخَّى حِمَامُ الموتِ أوْسَطَ صبْيَتي – فلله كيفَ اخْتار وَاسطَةَ العِقْدِ
أعطى الرومي للموت صفة الاختيار، فالموت اختار ابنه الأوسط، محمد الذي هو الجوهرة الثمينة التي تتوسط العقد، وإذا فقد العقد وسطه سيفقد معه الكثير. يتعجب اختيار الموت لمحمد، لماذا محمد بالذات؟ يحاول أن يخفف الرومي على نفسه فيظن لو أن الموت اختار ابنًا آخرًا لكانت لوعة الفراق أهون. طبعًا، لا يظن ظانٌّ أن ابن الرومي سيكون سعيدًا بذلك، لكن هذا البيت تجسيد واضح لشعوره النفسي بالضياع وتوهمه بأن أي شيء غير هذه الفاجعة أهون.
وأولادُنا مِثلُ الجوارحِ أيُّها – فقَدناه كان الفاجعَ البيِّنَ الفَقْد
يحاول الرومي أن يحلل كلامه، أو ربما يحاول أن يعبر عن قهره للموت فيقول لو أن الموت تخطَّفَ ولديه الآخرين، لعاش الألم ومرارة الشكوى نفسه.
على حينَ شمْتُ الخيْرَ من لَمَحَاتِه – وآنَسْتُ من أفْعاله آيةَ الرُّشدِ
طَوَاهُ الرَّدَى عنِّي فأضحَى مَزَارُه – بعيداً على قُرْب قريباً على بُعْدِ
فلما رأى تكوين شخصيته، طباعه، ورأى بداية الرجل الذي سيكونه، خطفه الموت من يدي أبيه، يرثي الرومي أبنه، يرثي عمره القصير، يرثي الاحتمالات التي كان سيعيشها..
لقَد قلَّ بين المهْد واللَّحْد لُبْثُهُ – فلم ينْسَ عهْدَ المهْد إذ ضُمَّ في اللَّحْدِ
يتفّكر الرومي في عمر ابنه، فكيف لمحمد قبل أن ينسى أيام المهد، صار في القبر مكانه؟ في هذه البيتين أسى عظيم، لصعوبة أن يدفن الأب أبنه، فكيف لو كان صغير السن لم ينسى بعد أيام المهد، وفي هذه المبالغة المنطقية أسى وتعبير بليغ بقصر عمره ورحيله قبل آوانه. تصارع الرومي المشاعر من كل حدب وصوب، فهو راضٍ بقضاء الله وقدره لكنه يتفدّى أبنه في كل سطر، وكيف ينسى أوسط العقد، وهو يرى أخوته يلعبون دونه، ويجلسون سوية دون محمد.
كيف وقد كان محمدًا وردةً نَضِرةً حمراءَ أصبحت بعد المرض والنزيف ذابلة صفراء موتة معذبة له ولأهله، فهم يرون روحه تزهق بمرور الثواني. يتعجب الرومي، رغم كل كلماته المكتوبة بأنفاس الألم وقسوة الجراح، كيف لقلبه أن يصمد بعد كل هذا؟ ويتعجب كيف لم يتحطَّم فؤاده بعد هذه الفاجعة؟ فهو بين فكي الصمود البشري وثقل مشاعر الحداد الغامرة.
وَلا بِعْتُهُ طَوْعاً ولكنْ غُصِبْته – وليس على ظُلْمِ الحوادِث من مُعْدِي
بكل عجز وحسرة يعترف أن محمد سُلب منه، غصبتْه الحوادثُ ابنَه، فلم يستطع أن يَصمُد لها، أو أن يسترد أبنه.
أَعَيْنَيَّ جُودَا لي فقد جُدْتُ للثَّرى – بِأَنْفَسَ ممَّا تُسألانِ مِن الرِّفْدِ
يناقض الرومي نفسه فيقول وهو يحدّث عينيه، اغيثيني بدمعك فقد أعطيت للتراب أثمن مما أطلبكما (ويقصد الدمع) وهو يعلم في قرارة نفسه، أنه لم يُستشار في وفاة ابنه، ليس له في هذا القرار أمر، لكنه يخفف ثقل الموضوع لعينيه، كي يهوّن ما يطلبه منهما حتى لا تبخلا به وفي هذا التلاعب الخفي، عبقرية بالوصف والشعور فهي تصف عجزه وألمه ورغبته القوية بأن تنهمر عينيه بالدموع العنيدة.
في أكثر من موضع في القصيدة صور الرومي أبنه محمد بأرق الأشياء وأكثرها هشاشة، فمرةً وردةً حمراءَ، وقد تحولت بسبب المرض والنزيف إلى زعفرانةٍ صفراءَ صُفرةَ الموت، ومرةً غصنًا من الرَّنْدِ قد جفَّ وذَوَى، ومرةً حَبَّات مِن الدُّر قد انفرَطتْ مِن خيطها وكل هذه التشبيهات تبين ضعف حالته الصحية و نظرة الأب لابنه محمد على أنه شيء صغير غالٍ عليه لا يتحمل كل هذا العذاب فهو كساق نبتة ضعيف لم يتصلب بفعل الزمن فما زال طفلًا لم يبلغ أشده.
عليكَ سلامُ اللهِ منِّي تحيةً – ومِن كلِّ غيثٍ صادقِ البرقِ والرَّعْد
بعد سطور من العجز، من محاولة فهم الموت وكيف تجاوزه ليأخذ ابنه، وبعد سطور من التوسل للعين أن تجود بدمعها، يختتم الرومي بدعوة من والد إلى ولده، فيدعو لابنه بالسلام والسكينة في مثواه ويدعي أن تسقيه ماء الغيث من ربه المغيث حتى يذهب عن قبره الجدب والجفاف.
تحرير وتدقيق: منى نايف.