قصة قصيرةقصص قصيرة

غفوة

بقلم: سعيد السعدي


حجم الخط-+=

 

مالِهذه السماء تتمازج بالرمال! لماذا الشمس تقابلني وجها لوجه.. مع أنها تدور وتتراقص مع كل شيء، إلا أنها تشعرني بسكون مطلق.. هذا السكون الذي لم أحظَ به منذ مدة.. منذ ولادتي. أشعر بأنني يجب أن لا أقف الآن.. لا.. بل يجب ألا أتحرك أبدا.

أهناك شيء ينغزني منذ لحظات.. ما هو يا ترى.. أهو طفل.. كأنه ثعبان.. ثعبان! مهلا.. أهو يحيط بي.. عشاؤه أنا! أيريدني أنا بعد أن رفضني الجميع.. لماذا أنا ساكن هنا أصلا؟ لماذا لا أستطيع الحراك… أيمكن أنني علقت في منتصف الصحراء؟
آخر ما قد أذكره أنني قدت سيارتي بعيدا عن الشارع، بسيارتي ذات الدعامية الصفراء التي لم تبقِ شارعا إلا وسلكته، كانت فرسي في الشدائد.. فرسي الذي لا يخون.. لكنني خنته بالثقة في عداد الوقود خاصته. كان هذا بعد ثلاث مئة ألف كيلومتر مسافة توقفت سُبلي.. في الصحراء القاحلة التي تتشارك بصفاتها مع قلبي، كنت لم أكمل نصف الطريق حينها.. ولا أذكر أنني أكملت شيئا في حياتي.. أتوقف في منتصف الأشياء دوما.. في العمر.. في الطول.. مهمات العمل، مشاكلي توقفت عند الفوران.. وحتى أن الألم في منتصفه توقف.. كأنه يريدني أن أكون مصاحب له في ذروته.. كنت أريد الابتعاد عن أرضي.. الابتعاد عن الجميع ولا شيء آخر.. حتى هذا لم أستطع تحقيقه.

لماذا أرى وجه أخي الآن.. ألم يكن يريد ضربي لأنني لم أكمل ما أمرني به.. أن أصلح سيارته التي بدأت فيها مؤخرا ولم أستطع، هو يريدني أن أكون بديله في الإنهاء.. يستغل كبره كي أفعل.. يا له من وغد. أمي تنهاني أن أهينه.. حتى ولو بكلمة.. لكنه يأبى إلا أن يهينني.. كأنه ولدهم الأوحد. يستلطفانه وقت العشاء والغداء.. وأنا بلا نداء ولا نظرة.. كأنني غير موجود.. كنت أريد الذهاب كي أعلم مدى ذكرياتهم نحوي.. أيمكن أن يتذكروني أصلا.. حتى أن الثعبان قد رحل عني. لم يبقَ لي أحد سوى نملة الصحراء التي تحاكيني الآن.. هي ترسم ثمالتها على صدري.. أشعر بطفيف مشاعرها.. كأنها ترسم حكايتي معها.. أتساءل أهي وحيدة؟ أتتألم؟ أكُسر قلبها يوما.. أتتشارك روحها مع روحي.. لكنني بلا فائدة لها الآن.. حتى أنني ما عدت أشعر بأي طرف في جسدي. إن جلدي أصبح ملكا لساكني الصحراء.. حتى هنا سأكون مرغما عني.. يلفني اللا حراك.. مكبلا بيأسي.. إنني منهك.. منهك حتى الموت.

أمي.. قد أخبرتكِ أن لدي حُلم.. لكنك لم ترغميني عليه.. لم ترفعيني عاليا بكلماتكِ العاجية، هل سولت لكِ نفسك أن لا تهتمي لحلمي الصغير.. أن ترمينه في غيابة الجب قبل أن يرفرف.. ذلك الحُلم الذي مات في مهده.. كنت أريد أن أكون رساما ليس إلا، أن أرسمكِ وأخي وبعض من أجزائي المبعثرة.. أن يكون لي مرآتي بينكم، بين أقراني، لكنني عشت بلا أقران.. حتى أنكم منعتموني إياهم.

وكم أكره أبي.. ذلك الأب الذي يحمي ظهر أبنائه وينبت على جباههم حقل الأمان. هو لم يسوءه حالي، بل ساءه عدم سوء حالي.. كنت أريده صديقي الذي يحملني على كتفه.. صديقي الذي يخبرني بقصص ترحاله، ولكنه دائما ما كان يقول إن صداقته مع العصى تكون، يقول إنه يتمنى لو كنت في غير عائلته.

لماذا أتذكر كل شيء الآن، هل لأنني كنت أريد اعتراف منهم.. هل لأنني كنت أريد أن أكون في غير ما قد كنت، لم أبكِ يوما، لم أتحدث يوما، حتى أنني لم أقتل حشرة، هذا لأنني منهم.. الجميع يراني كما يرى الحشرة.. غير أنني كبير الحجم فقط، ومع ذلك كنت صامتا رفقة الجميع كهذا الصمت الأبدي الذي يعتريني، كنت دائما الخطأ حيث العالم لا يعترف.
أيها النمل.. أيها الدود.. أقربائي الوحيدون على هذا العالم، يا من صرت أطعمهم جسدي.. لم أعد أشعر بحرارة الرمل برفقتكم.. هل لي أن أغفو بعيدا عن الضجيج، بعيدا عنهم وإلى الأبد.

تمت

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى