مترجممحتوى مترجم

لا يمكن أن تحظى بالإبداع دون المرور بدهاليز الملل

ترجمة: هيا البوعينين


حجم الخط-+=

 

للكاتب: أرون أنجيلو 

اعتادت أن تقول لي أمي عندما كنت طفلًا، أن “الملل هو نقصٌ بالخيال”، وأنا متأكد أن تعبيرها تكرار لما عرفته من والديها، أظن أن هذا التفكير كان حينها منتشرًا وذو شعبية كبيرة.

بحثت قليلًا ووجدت أن هذا التعبير الذي أشارت إليه، ليس إلا اقتباس من رواية لسوزان إرتس عام 1943 بعنوان غضبٌ في السماء (Anger in the Sky)، والتي تقول فيها ستايسي الابنة الصغرى لوالدتها السيدة أنثروثر الغنية، بعد مناقشة أنواع الحياة التي يجب أن يعيشها الناس في سنواتهم الآخيرة، 

أظن أنني أتفق مع ما قلتي، لكن ألن يشعر الناس بالملل إذا عاشوا كل هذه المدة الطويلة؟

فأجابت السيدة أنثروثر:

يشعروا بالملل؟ لا أريد أن أسمع هذا الكلام من فمك مرةً أخرى، فالملل وببساطة يأتي من الجهل وقلة الخيال.

بمعنى؛ لا يمكن للعقل الإبداعي أن يشعر بالملل لأن الملل والإبداع (أي الخيال) حالات عقلية متعارضة تمامًا.

لا يزال هذا التفكير سائدًا بصورة كبيرة، مما يثير تعجبي فيقولون لنا الملل سيد الشرور وقاتل للإنتاجية، وإذا شعرت بالملل، يجب أن تحرك جسدك البليد وتفعل أي شيء لتطرد هذا الضيف الثقيل فورًا! ولكنني وصلت لنتيجة تختلف تمامًا عن هذا الرأي، وأقف بصف الملل كنهج مولد للعملية الإبداعية، فبدلًا من النظر إلى الملل كنتيجة لافتقار الخيال، أرى أنه يوفر نافذة للوصول إلى إمكانيات العقل الخيالي.

 

السكون الجسدي كأسلوب كتابة:

 

كتابي الأخير، حقيقة الذاكرة: 114 اجترار الأفكار والافتراءات، هو نتيجة عادة يومية طورتها، حيث كنت أستيقظ بوقت مبكر جدًا من الصباح وأجلس على كرسيٍ مستقيم الظهر بجوار نافذتي بشقتي في بولدر، وأفكر- بتركيز وتأمل- في كلمة واحدة من السوناتة التاسعة والعشرين لشكسبير.

وقد كتبت حينها كل كلمة بالترتيب في أعلى صفحة في دفتري. وفي كل صباح أنتقل للكلمة الأخرى، وأجلس أكررها لنصف ساعة أو أكثر، ثم أكتب. كان القيد الذي فرضته على نفسي هو أنني لن أتوقف عن الكتابة حتى تمتلئ الصفحة، وأنني لن أكتب في الصفحة التالية، لم أفرض على نفسي أية قيود أخرى فيما يتعلق بالنوع أو الخيال والواقعية أو الأسلوب أو الإلقاء – أو أي شيء آخر، كررت الأمر نفسه كل صباح ولمدة 114 يومًا.

ما أدركه الآن وبعد مرور وقت على تلك العادة، هو أنني عثرت على أحد أكثر أساليب الكتابة إنتاجية من بين كل الأساليب التي جربتها، كل ما فعلته هو أنني جلست على كرسي، موليًا وجهي للأمام، في المكان نفسه دائمًا ، صباحًا بعد صباح، على الرغم أنه لم يكن هناك ما يحفز على هذه العملية، أو هذه الممارسة.

وعندما أفكر في هذه العادة وسبب فعاليتها، أتذكر موقفا حدث قبل أن أكتب ذلك الكتاب بسنين عديدة، كنت في عشرينياتي، أعيش في لوس أنجلوس في محاولة لأن أكون ممثلًا وموسيقيًا، أعمل في تقديم الطعام للمراهقين في برنامج صيفي مختص بصناعة الأفلام والعمل حينها، في تقديم الطعام كان جحيمًا.

كنا اثنان فقط في هذا العمل: ممثل بارع متدرب يكبرني بعقدين من الزمن وأنا، والعمل منهكٌ على الصعيد الجسدي، اضطررنا إلى نقل حاملات طعام كبيرة سوداء على سلالم صعبة في مبنى المكاتب، وصفِّ مجموعة من حافظات البوفيه الكبيرة المليئة باللحم البقري والمعكرونة، وملء موزعات المشروبات ذات الخمسة جالونات بعصير الليموناضة الفورية من المطبخ إلى طاولة البوفيه، لم يكن العمل منهكًا عقليًا كما كان جسديًا ولكن لذلك ضريبة أيضًا على الحالة العقلية.

كان علينا التعامل مع حشد من صغار السكورسيزيز لا تتجاوز أعمارهم الخامسة عشر (مارتن سكورسيزي مخرج أمريكي مشهور) ومساعدتهم ليعرفوا كيفية استخدام المغرفة أو كيف يحملون طبق ورقي محمل بالذرة والفاصوليا المطبوخة من طاولة البوفيه إلى طاولة طعامهم دون إسقاطها على الأرض أو على أنفسهم. وفي الوقت نفسه، كان علينا أن نتجاذب أطراف الحديث مع الفريق ونحافظ على نظافة وترتيب الطاولة. كان العمل تلك الفترة عملًا مستمرًا وللأمانة كان عملًا شاقًا.

وعندما ينتهي اليوم، نسحب كل شيء للمطبخ مجددًا. يبقى أحدنا  بالخارج حيث كان بعض الطلاب ينهون وجبات الغداء وما تبقى في أطباقهم، والآخر يعتني بالصحون المتسخة في الخلف. في أول أيامي، كانت مهمتي غسيل الصحون بينما كان زميلي مسؤولًا عن ترتيب البوفيه والتعامل مع الطلاب. لأن غسيل الصحون كان مهمة قذرة ومقرفة. وظننت أنني أقدم له معروفًا. لاحقًا، وبعد مرور كم يوم من البرنامج الصيفي، طلبني أن يقوم بالغسيل.

– لا، لا دعها لي، اسبقني وركز على ترتيب البوفيه.

– لا، دعني اغسل الصحون..

– لا، أود غسيلها بنفسي.

– سأغسلها!! سأغسلها!!

وانهار تمامًا واتذكره يرجف، عروق رقبته وصدغيه بارزتان وعينيه ممتلئة بالدموع.

وما فهمته الآن، أن غسيل تلك الصحون المتسخة بزفر السمك وصوص الباربكيو كان فعلًا المهرب الوحيد. لأنه عمل متكرر وممل و في عزلة من الضجيج. كان ذلك الوقت المقتطع الوحيد من عملي الذي يسمح لعقلي الإبداعي أن يتحرر من المهام ومن كل تلك الأوامر السخيفة التي يفكر فيها المرء في وظيفة مثل تلك.  كل ما أردناه أنا وشريكي حينها هو أن نعود إلى ذلك المطبخ وندفع ذراعينا في مياه الصحون الغامضة، ونتوقف عن الانخراط في الأشياء التافهة لمدة نصف ساعة أو أكثر.

في مقال بعنوان الملاحة بالسكك الحديدية والسجن في كتابه ممارسة الحياة اليومية، يرسم الفيلسوف الثقافي الفرنسي ميشيل دي سيرتو صورة راكب على متن القطار على أنه “مسافر مسجون” بجسده الملتزم وبمعنى فوكو:

يجلس المسافر على كرسيه، موليًا وجهه للأمام بجلسة منضبطة. يجلس بجوار النافذة، غير قادر على فعل أي شي سوى مشاهدة العالم خارج القطار، والعالم يواصل مسيرته. كل شيء في مقصورة القطار ساكن تمامًا. حتى عندما ينظر لتلك النافذة من مكانه يبدو العالم ساكنًا.

 

كلف نفسك بمهمة لا تفكر فيها بما يفعله جسدك:

يجب على الكاتب أن يكلف نفسه بمهمة لا يفكر فيها فيما يفعله جسده، ويعد المشي مثالًا جيدًا لذلك.

ومع ذلك، فإن القطار يسير بسرعة إلى الأمام على طول سكة حديدية. يكون فيها الراكب في عزلة جسدية، وعلى الرغم من تحركه الفعلي (أي مع حركة القطار) إلا أنه غير قادر على الحركة. وهو معزول عن العالم الذي يسارع من خلاله، ووفقًا لدي سيرتو، “قطع المسافات هذا ضروري لولادة.. لولادة مناظر طبيعية غير معروفة والخرافات الغريبة لقصصنا الخاصة.”

(بمعنى أي أن قطع المسافات يأتي بنتيجتين أولها الوصول لمناظر مابعد القطار وثانيها الوصول إلى  منطقة الإمكانيات الإبداعية )

إنها دنيوية التجربة بأكملها، بعيدًا عن التجربة الحية اليومية، التي تحرر العقل للوصول إلى ما لا يمكن الوصول إليه بطريقة أخرى، وتذكرنا بالمنسي، وتساعد على اجترار الأفكار والتذكر.

بالنسبة إلى دي سيرتو، فإن حركة القطار ضرورية للوصول إلى العقل الخيالي. كل ما ذٌكر منطقي، وأتفهمه تمامًا فقد كتبت العديد من الأشعار على متن حافلة نقل من دينفر إلى بولد. ولكن تخبرني تجربتي بأن حالة ثبوت الجسد في وضع محدد مسبقًا (مثلًا الجلوس مواجهًا للأمام)، وتًحرر العقل من انخراطه المعتاد المستمر في وابل من الأشياء غير المهمة تؤدي إلى انتقال الشخص المبدع من قيود العقل الواعي إلى الإمكانات الهائلة لما أحب أن أشير إليه بعقل”ما وراء الوعي”. في القطار (أو الحافلة، أو الكرسي في غرفة المعيشة) ننتقل من حالة المشاركة التافهة إلى حالة سكون قد نسميها الملل، وهذه الحالة هي نقطة وصول إلى إمكانية إبداعية. 

 

المشي كمولد للأفكار: 

 

ويحقق المشي حالة مشابهة. فمن المعروف عن الكتاب أنهم على الأغلب يحبون المشي. حيث أن المشي يعد هواية فعالة ومولدّة للأفكار عند الأشخاص المبدعين. وكذلك عُرف عن العديد من الشعراء اتخاذهم هواية المشي ، منهم ويليام وردسميث، روبورت فروست، والس ستيفن و سوسان هاو.

في مقالهما الممتاز أعط أفكارك ساقين: التأثير الإيجابي للمشي على التفكير الإبداعي ناقش ماريلي أوبيزو وداينيل إل شوارتز فكرة  “المشي يعزز التفكير الإبداعي في الوقت الفعلي وبعد فترة وجيزة”. وفي سلسلة من التجارب، وجدوا أن التنزه “هو إستراتيجية سهلة التنفيذ لزيادة توليد الأفكار الجديدة المناسبة”، بل إنها أكثر فاعلية من الجلوس.

قد يكون هذا صحيحًا، لكنني مع ذلك أؤكد أن الجسد المنضبط، المتحرك في هذه الحالة، هو الذي يحرر العقل من الالتزام التافه. أنا أزعم أيضًا أنه لكي يكون المشي فعالًا، لا يمكن للمرء أن يسير في مسارات جديدة ومثيرة. لا يمكن للمرء أن يمشي في طريق لا يعرفه. بل يجب أن يعرف جسد المرء المسار جيدًا بحيث لا يضطر العقل للتنقل بنشاط في الأخطار المحتملة؛ يجب ألا يُحفَز العقل بأشياء جميلة أو مفاجئة في كل زاوية مجهولة.

 في المناقشة العامة لدراستهم، يشير كل من أوبيزو وشوارتز إلى الحاجة لمزيد من الدراسات الضرورية لتحديد ما إذا كان الوصول إلى الأفكار الإبداعية “أثر للانخراط في مهمة مريحة لا تستدعي التركيز العقلي (كالحياكة مثلًا)، بدلاً من ممارسة الرياضة.” يقترحون أيضًا فكرة أن “المشي قد يكون فعالًا في العديد من الأماكن التي لا تحتوي على مشتتات قوية”. وأظن أن هذا بالذات أقرب وصف لما أعنيه.

الطريقة الفعالة وأجادلكم هنا، هي أن الكاتب يحتاج إلى أن يضع نفسه في موقف “المسافر المسجون” للانتقال إلى حالة الوعي وإلى ما وراء الوعي، ثم يكلف نفسه بمهمة لا تستدعي التفكير بما يفعله الجسد، المشي ممتاز وركوب الحافلات كذلك.

 

انغمس بالملل: 

 

يشجع ديفد لينش (الذي يمكن القول بأنه أحد أكثر صانعي الأفلام إبداعًا – وأنا من أكبر معجبيه) على التأمل التجاوزي (تقنية لتجنب تشتيت الأفكار وتعزيز حالة من الوعي المريح). عندما كتبت حقيقة الذاكرة، جلست على كرسي، وتأملت كلمة واحدة، وكتبت لم أخطط لأي شيء ولم يكن لدي شيء آخر لأفعله وتركت نفسي تنغمس في الملل.

إذا كنا وقت الكتابة محدودين في مناطق عقلنا المعتادة ولا نصل إلا لمكان نعالج فيه أفكار اليوم وحياة اليوم ففي هذا المكان الواعي من عقلنا كل شي معروف، وسينتج عن البقاء في هذه المنطقة (الحالة العادية) كتابة مكررة لواقعنا أو لما هو موجود بالفعل، وسنكون فقط في الوضع الراهن، لا ينتج عن هذه المنطقة سوى تكرار ما هو موجود بالفعل من الابتذالات والاشتقاقات المكررة في الكتابة. 

إذا ابتكرنا طرقًا للوصول إلى ما وراء وعينا، سندخل حينها عالم الإمكانات؛ عالم لا تتواجد الاحتمالات الجديدة إلا فيه، ما وراء وعيك؛ قيمة القيام بالمهام المملة التي تشغل الجسد وتحرر العقل قيمة عظيمة، فالمهام والممارسات المملة تحرر العقل المبدع من الانغماس المستمر في الحالة العادية، نعم تبرمجنا على أن الملل أمر سيء، لكنه قد يكون الطريقة الوحيدة للخروج من طريقة تفكير متكررة.

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى