قصة قصيرةقصص قصيرة

الجديلة الثمينة

بقلم: شرنقة


حجم الخط-+=

في كلّ عوالم الأرض توجد حكاية لأم عطوف، تفيقُ على الدنيا يعنيها من أمرها أن يأكل الأولاد، ويضطجع ربّ المنزل على فراشٍ أثير،

تلازمها التضحية وتتلازم معها وتحملُ على كاهلها مسؤولية الأرض، ولا مناص حتى قيام الساعة، في مدينة متقشفة نائية، خاوية، إلا من بعض الذين جمعتهم الأقدار عنوة، ترى الأمّ ولداها كلما شعروا بالجوع الشديد استعاضوا بالبكاء عن اللعب أو النوم، ويزيد ذلك أنينا في قلب الأم المكلومة، والذي يخرج زوجها في بداية يومه ليكسب لهم بعضَ ما يعيشون به.

تقصّ جديلة أخرى من شعرها، زوجها من خلف الباب ينتظر، لفّت على رأسها قطعة قماش، وخرجت لتقول له وهي ممسكة بالظفيرة: حاول أن تجد لنا مؤونة تطول أياما.

رد: الله يرزق، سأفعل ما بوسعي، لا تقلقي.

قالت بصوت مترقّب: أيمكن أن تجلب عشرين درهم؟ لقد حاولت أن..

قاطعها قائلا: سأحاول ألا تظنين أني كفؤٌ لمعرفة هذه الأمور، تخصّ الرجال وحدهم!

بعد ساعات…

تسمعُ طرقا متواصلا على باب منزلها، هرع الطفلان إلى حضنها، هانئ وعبدالرحمن، سألت بصوت عال: من ؟

أتى الردّ بصوت متحشرج: أرسلني رئيس الحيّ

قالت وهي تظن أن زوجها قد أُصيب بمكروه: هل أبو هانئ بخير؟

قال: افتحي لي الباب لأشرح……

قاطعته قائلة: لكن أبا هانئ غير موجود

فردّ: أعلم وهذا ما حضرتُ من أجله

ففتحت الباب ببطء وهي تنظر متفحصة الرجل، عريض المنكبين، تتبدى في وجهه ملامح غاضبة، عليه أثر وعثاء العمل، امعنَ النظرَ إلى الطفلين المتعلقين بأمهما، فقالت له: اخبرني عن سبب مجيئك

فقال: كما تعلمين تحدث هنا أشياء لا يمكن حسبانها، ثم مسح على رأس عبدالرحمن واتبَعَ كلامه قائلا: نظن أن زوجك قد ورّط نفسه في وأشار بسبابته كأنه يقطع عُنقه.

قالت باستغراب بدا على ملامحها: كيف ذلك؟ إنه لا يتغيب عنا إلا الوقت الذي يجلب لنا فيه بعض الأطعمة!

قال: وماهي طريقته في الكسب؟

قالت: لا يَحقّ لك أن تستجوبني الآن، قل لي أين هو؟

قال: لا أعلم لكن مصير المفسدين في الحي…

فقاطعته قائلة: إني متأكدة أن هناك خطبا ما، فهو يعول على هذين الصغيرين..

لم يردّ عليها.

جال ببصره في أنحاء المنزل، الذي تبدو عليه خشونة الأيام، الجدران جافة موغلة في القِدم، تحتضن في ذراعيها عائلة صغيرة، وديعة يسلّي الأفراد فيها أنفسهم بوجودهم..

اتجه نحوَ الباب وألقى نظرة أخيرة على المنزِل، وقال بصوتٍ أقصر: هل يأتيكم طعام كاف؟

لم تردّ عليه، وبعد تيقنه من عدم تلقّي أي جواب، عاد أدراجه، تحاول إحكام الباب بعد خروجه..

بعد يومين، لم يعد الأب إلى المنزل وبدأت الشكوك تساور الأم، فزوجها الذي كان يذهب وقتا طويلا في سبيل إيجاد لقمة العيش، لم يعد وتظن أن أحدا ما حاول الاحتيال عليه، لم يكن بيدها سوى الانتظار..

تتضخم الأفكار في رأسها، تزداد قلقا وخوفا، أن يتركها هذا الزوج تعول على أبنائها بآخر جديلة، تخشى أن يكون كلام الرّجل صحيحا، لكنها تأبى أن تصدق، وبينما هي جالسة وأحد ولديها مستند إلى حجرها يلعب، إذ بجارتها تطرق الباب، فقالت لها بصوت مسموع: تفضلي

فدخلت الجارة تجر رجليها من ثقل ما تحمل، تلتفت يمينا ويسارا وتمتم، تتحرك كأنها تبحث عن ما يمكنها أن تقوله..

ونطقت أخيرا: إن الذين يصبرون على الأقدار يجازيهم الله بالجزاء الحسن.

وبعد صمتٍ طويل قالت: أودعه المفتش في السجن.

ففزعت الأم ولم تنبس ببنت شَفَة لا تريد أن تسمع الخبر الذي توقعته لعدة أيام..

وبينما كانت ترطن الجارة بعض المواعظ استغرقت الأم في حزنها وهي تفكر في المصير الذي سيحدث لها بعد فقدان الأب، وامتلأت عيناها بالدموع، فتوارت عن ولديها، لئلا يريا في عينيها الفاجعة.

وفي يومٍ شديد الحرارة حملت الأم ولديها وذهبت إلى السوق، حاملة الجديلة الأخيرة، ومرّت على رجل يبيع، فقال لها: أأنتِ صاحبة الجدائل؟ قالت: نعم، وما أدراك؟ قال: أعطِنيها أنا اشتريها كلّ مرة بمئه درهم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى