مترجممقالات

ما الذي يمكننا تعلمه من حياة الأمير الصغير؟

ترجمة: ديم البداح


حجم الخط-+=

عن الحقيقة الداخلية والدروس المستفادة من “حجر الفلاسفة”

بقلم: ستيفان غارنييه

 

متى كانت أول مرة قرأتُ فيها حكاية “الأمير الصغير”؟

مثل أي شخص، أعرف أنني قرأتها، ولكن ما الذي أتذكره عنها مع مرور السنوات؟ متى فهمت لأول مرة ما ترمي إليه القصة تحديدًا؟ وما هي الدروس التي تعلمتها منها في السنوات اللاحقة؟

ثمّ أعود لأتذكر المرة الأولى التي قرأتها فيها…

 

كانت المرة الأولى قبل أن أكبر، أن أصبح عقلانيًا، وأخطو إلى عالم البالغين الذي قيل لي أنه العالم الحقيقي، المرة الأولى قبل أن أنساها.

“كان يا ما كان، كان هناك أميرٌ صغير”. حتى لو لم يرغب أنطوان دي سانت إكسوبيري في أن يستهل الكتاب بهذه الكلمات، فإن إضافة عبارة “كان يا ما كان” تعيد إلى القصة بعضًا من سحرها، وأيضًا بعض الأحلام التي كنا نحلم بها جميعًا كأطفال. ما زلت أعتقد أن لهذا السحر أثرًا حتى الآن. الأمير الصغير أكثر بكثير من مجرد كتاب – إنه ظاهرة عالمية تُرجمت إلى 300 لغة ولهجة.

وبعيدًا عن نجاحها، تظل قصة الأمير الصغير جزءًا منا. إنها قصةٌ بدأت منذ طفولتنا وتستمر في التشّكل على مدار السنين، الأمير الصغير نفسه جزءٌ منّا، ربما خطر ببالنا أن نُبعده عن حياتنا قدرالمستطاع مع تقدّم السنين، لنسير بخطى كبيرة على طريق الراشدين متى ما تسّنت لنا الفرصة. وذات الطريق الذي نسلكه إلى أن نصبح بالغين يغدو الانحراف عنه أصعب فأصعب كلما تقدمنا في العمر.

اليوم، لا يزال الأمير الصغير رمزًا يمثل ما كنّا عليه في طفولتنا فتُمثل شخصيته حقائقنا الداخلية قبل أن نكبر، ويبقى أيضًا مثل حجر الفلاسفة باستطاعته التحدث إلى الطفل الذي كنا عليه بالأمس، ذات الحجر القادر على تغيير نظرتنا للعالم والحياة إذا اعترتنا الرغبة. إنه حجرٌ سحري يعمل على أفكارنا من أجل تحويل هذه الجدران الرمادية العالية التي تمتد على طول طريق حياة البالغين إلى شريطٍ من خيوط ذهبية، فينفذ الضوء من خلالها مرةً أخرى وينير ضوء الشمس كل لفافةٍ ذهبيةٍ وينشر الدفء في عالمنا.وإذ نواصل السير في درب الحياة، فإن هذا الضوء يُدفئنا للسنوات القادمة.

 

ولكن ماذا لو فتح الأمير الصغير مذكرات سفرهِ الداخلية وأراها إياك لتتمكن من العودة إلى الطريق وتعيد اكتشاف مشاهد طفولتك في عالم يضج بالجنون بين حينٍ وآخر؟

 

بات مصطلح “المماطلة” عصريًا في السنوات الأخيرة في جميع مجالات حياتنا الشخصية والمهنية. يبدو أن أنطوان دي سانت إكسوبيري قد توقع هذا التطوّر في كتابه الذي ألّفه قبل سنواتٍ عديدة. وكما يقول المثل “لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد”.

عندما يحذرنا الأمير الصغير من انتشار بذور الباوباب على كوكبنا الصغير، فإنه يشير إلى أن علينا ألّا نهمل أبدًا الاهتمام بمصدر بقائنا، حتى لو لم يكن سببًا لابتهاجنا.

 

بنفس القدر من الأهمية علينا أن نميّز بين ما هو عاجل وما هو مهم، وغالبًا يكون قول ذلك أسهل من تطبيقه، أليس كذلك؟ هل يمكننا حقًا تنفيذ هذه الفكرة يوميًا؟ فالملذات العابرة والأشياء عديمة الفائدة التي تستهلك دقائق من أيامنا تشغل الكثير من المساحة في حياتنا، ونحن بدورنا نوليها أهمية كبرى بحيث يصعب أحيانًا تمييز الممتع، أو الضروري، أو المسلي، أو الحيوي، أو المفيد لنا. 

عندما كنت صغيرًا أذهب إلى متجر النجارة مع والدي، كانت إحدى مهامي الأولى هي استبدال أكياس نشارة الخشب التي تُوضع خلف الآلات الكبيرة إذا امتلأت. كان حجم بعض الأكياس كبيرًا كالرجال، وبالتأكيد أكبر مني، واضطررت  أن ألف ذراعي حول  تلك الأكياس وحملها للخارج.  كانت مهمةً شاقة تعتمد على الجسد خاصة في هذا العمر، لكنها مهمة أساسية للحفاظ على تشغيل المصنع بسلاسة. فإذا كانت الأكياس ممتلئة ستدخل الآلات في وضع “السلامة” ولا يمكن قطع المزيد من قطع الخشب أو تسحجه.

 

كانت المهمة العاجلة التي يمكن تنفيذها باليد تكمن في إنتاج الأثاث وخزائن الكتب وخزائن المطبخ للعملاء حتى تتمكن الشركة من إثبات نفسها. لكن ضمان إمكانية إنتاج الأثاث أكثر أهمية، وكان أحد الشروط الأساسية لذلك استمرار الآلات في العمل. شكّلت مهمتي حلقة واحدة فقط في السلسلة، لكن هذه المهمة أساسية لاستمرار عمل الآلات بحيث يمكن ملء الأكياس والحفاظ على السجاد خاليًا من أي مخلفات خشبية. وبهذه الطريقة، يستطيع النجارون وصانعو الخزائن تنفيذ عملهم ويمكن للمسؤولين تركيب هذه القطع الفنية الصغيرة في منازل العملاء.

كنت أنتمي إلى تلك البيئة عندما كنت طفلاً، وجزءًا من العمل الذي كان مهمًا، وإن لم يكن بالضرورة عاجلًا. أفكر في برنارد وروبرت، اللذين لم يعودا معنا، ولكنهما عملا في المصنع وكانا يحبان رميي في أكوام من النشارة، تمكنت دائمًا بصعوبة كبيرة وقدرٍ كبير من الضحك إخراج نفسي منها.

هل ما زلت قادرًا اليوم على التفريق بين ما هو عاجل وما هو مهم في الأشياء التي أفعلها كل يوم؟ لست متأكدًا من ذلك. هذه كانت إجابة الأمير الصغير لي أثناء قراءتي للكتاب مرةً أخرى.

“ما هو الشيء الأكثر أهمية من أجل أن تفعل ما تفعله؟ أن تكتب كل يوم؟” سألني الأمير الصغير.

أجبت: “لأعتني بنفسي”.

وقال لي: “أنت تعني… ما لا تفعله دائمًا.” ومع أنني أبذل قصارى جهدي لفهم الفرق بين ما هو عاجل وما هو مهم في حياتي اليومية مثل غالبية الناس، ما زلت لا أعرف كيف أستمع لنصيحة الأمير الصغير بالكامل.

ماذا عنك؟ ما هي أهم الأشياء وأكثرها ضرورة لتفعلها في حياتك؟ هل تمكنت من تحديد الفرق بينهما؟ ما هي الباوباب في حياتنا التي نحتاج إلى مراقبتها حتى لا تغزونا؟ وكما يُذّكرنا الأمير الصغير، لا تنسَ أبدًا الاهتمام بأهم الأشياء في حياتك. علينا ألا نؤجل أبدًا ما يُحيي أنفسنا اليوم إلى الغد.

 

تدقيق: زكية العتيبي

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى