مترجممقالات

إليف شفق عن الشعور بالانتماء لأكثر من مكان في نفس الوقت

ترجمة: صفاء صالح


حجم الخط-+=

 

“أكثر مايقلقني وبشدة، رؤية الحواجز ترتفع أكثر فأكثر”

 

للكاتبة: إليف شفق

كتب الشاعر اليوناني قسطنطين كفافي “هذه المدينة سوف تتبعك دائما”، حتى وإن ذهبت لدولة أو ضفة أخرى… وأما أنا فإن المدينة التي تتبعني دوما هي إسطنبول.

في قلبي سوف أكون من أهل إسطنبول دائمًا حتى وإن لم أعد لها. حُبي واهتمامي لهذه المدينة عميق، وأعتقد بأن ذلك واضح من رواياتي، أشعر بأن إسطنبول تلازمني أينما ذهبت؛ فنحن لا نتخلى عن الأماكن التي نحبها لأننا بعيدون عنها فقط.

إن الأوطان قلاعٌ مُشيدة من زجاج، ولكي تتركها لا بد من أن تحطم شيئًا –  سواءً كان جدارًا، أو عادات وتقاليد… حواجز نفسية، قلب شخصٍ ما – وما حطمته سيلاحقك. فأن تكون مُهاجرًا يعني أن تحمل شظايا من الزجاج في جيوبك دائمًا، سهل أن تنسى وجودها لضآلة حجمها، فتواصل حياتك وطموحاتك الصغيرة وخططك المهمة، ولكن عند أبسط احتكاك ستذكرك قطع الزجاج بوجودها وتجرحك بشدة.

 تمثل أوطاننا التي هجرناها الوعود التي عقدناها عندما كنا صغارًا، قد لا نؤمن بها بعد الآن، ولا نفكر بها كثيرًا حتى ولكنها ما زالت معقودة بألسنتنا. إنها الأسرار المكتومة، والأجوبة التي بُلعت، والأوجاع الخفية، والجروح القديمة التي فُتحت مجددًا، والحب الأول الذي لا يُنسى. وعلى الرغم من أننا قد نتخلى عن أوطاننا إلا أن أوطاننا – في الحقيقة  – لن تتخلى عنا أبدًا. إنها الظلال التي سترافقنا لآخر بقعة في الأرض، تارة تسبقنا، وتارة تتبعنا، ولكنها لا تبتعد عنا أبدًا. لهذا السبب حتى بعد الهجرة والتنقل، إذا أمعنتم التركيز فلا يزال بإمكانكم اكتشاف آثار أوطاننا في لهجاتنا الركيكة وابتساماتنا الطفيفة وسكوتنا غير المريح.  

“انتماؤك لأكثر من مكان توجه وأسلوب تفكير، لا عدد الختمات في جواز سفرك”

لذا نعم أنا من أهل إسطنبول، متعلقة بشدة بمنطقة البلقان. اجمعني مع كاتب ذي خلفية يونانية أو بلغارية أو بوسنية أو ألبانية أو رومانية وحينها ستذهل بكمية القواسم المشتركة بيننا. وأحمل  بنفس القدر في روحي عدة مقومات من الشرق الأوسط ؛ لذا ضعني الآن بجانب كاتب من خلفية سورية أو لبنانية أو أردنية أو مصرية أو فلسطينية أو تونسية، وستُدهش مجددًا من مدى تشابهنا.

في الوقت نفسه أنا من أهل لندن، ومواطنة بريطانية، وأشعر بأنني مرتبطة بهذه الدولة بعمق شديد، حيث وجدتُ الحرية في الكتابة. أنا أوروبية–منذ الولادة، وباختياري وبالقيم التي أدعمها. وبغض النظر عما يقوله سياسيونا في الآونة الأخيرة، إلا أنني أُفضل اعتبار نفسي كمواطنة في العالم، وفي هذه الأرض،  وكروح عالمية، أنتمي لعدة أماكن.

يقول الشعبويين: “إن هذه رفاهية، فليس بإمكان الجميع السفر.” 

صحيح، ليس بإمكان الجميع السفر متنقلًا بين الثقافات، ولكن ليس بالضرورة أن يكون كل من يسافر شخص مُرفه. على إثر الجائحة، سوف يتمكن عدد قليل من السياح من السفر خارجًا، ويتقدم عدد قليل من الطلبة الدوليين للابتعاث، ويُقبل عددٌ أقل من العمالة الوافدة. إن رؤية الحواجز ترتفع أكثر فأكثر يقلقني بشدة. 

” نادرًا ما نعلم أبناءنا، في المدرسة أو محيط العائلة أو المجتمع بأنهم يملكون عدة أماكن لينتموا إليها، وبأنه يمكنهم حُب وتقدير كلتا الدولتين والمجتمعين الذين ينتمون إليها، بينما يتذكرون في نفس الوقت بأنهم مواطنون للإنسانية كذلك.”

تعزز التبادلات الثقافية من مفهوم الانتماءات المتعددة، ولكنها ليست أمرًا محصورًا على أولئك الذين يسافرون. إن انتماءك لأكثر من مكان توجه وأسلوب تفكير، لا عدد الختمات في جواز سفرك. إنها عن التفكير في نفسك والآخرين بطريقة مرنة أكثر، بدلًا من التصنيفات الموحدة. 

ربما تكونوا جميعًا قد ولدتم، ونشأتم وتعلمتم وتزوجتم في محيط المدينة نفسها، إلا أنكم ما زلتم تنتمون إلى عدة أمور: من خلال قصص عائلاتكم، وانتماءاتكم الثقافية، وتفضيلاتكم الاجتماعية، وآرائكم السياسية، وروابطكم الرياضية والفنية وما شابهها. فالبشر لا حدود لهم وينطوي بداخلهم الكثير.

 كما يتمتع الأشخاص الذين لديهم انتماءات متعددة بفرصة أكبر في إيجاد قواسم مشتركة أكثر من الأشخاص الذين لديهم خلفية متبادلة. مع ذلك، لِمَ نادرًا ما نعلم أبناءنا في المدرسة أو محيط العائلة أو المجتمع، بأنهم يملكون عدة أماكن لينتموا إليها، وبأنه يمكنهم حُب وتقدير كلتا الدولتين والمجتمعين الذين ينتمون إليها، بينما يتذكرون في نفس الوقت بأنهم مواطنون للإنسانية كذلك! 

– مُقتبس من كتاب «كيف تبقى عاقلًا في عصر الانقسام»، للكاتبة إليف شفق

 

تدقيق: زكية العتيبي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى